فإن قيل: فما المانع من الرؤية الساعة له تعالى ؟ قلنا: إن المانع هو ما خلقه في أبصارنا من قلة الإدراك لبعض المرئيات دون بعض، فإذا خلق فينا إدراكا رأينا مرئيا لم نكن نراه من قبل؛ ألا ترى أن الواحد منا لا يرى اليوم ملك الموت إذا نزل بأخيه وأبيه، ويراه إذا نزل به، وليس ذلك إلا لأنه لم يخلق الله في بصره إدراكا له عند موت غيره، وخلق في بصره إدراكا له عند موته. وكذلك الفرس، والهر وكثير من الحيوان يرون الصورة والشخص في ظلام الليل وسواده، ونحن لا نرى ذلك؛ وما ذلك إلا لأن الله تعالى خلق في بصرها إدراكا حتى رأت، ولم يخلق في أبصارنا إدراكا حتى نرى، كما ترى؛ فكذلك لم يخلق في أبصارنا إدراكا له في الدنيا حتى نراه، ويخلق لنا إن شاء الله في جنته إدراكا حتى نراه، كما وعدنا ووعده الحق الصدق الذي لا يخلف.
فإن قالوا: وإذا كان الأمر كذلك، فجوزوا أن يخلق الله لكم إدراكا ترون به ذرة، ويخلق فيكم عدم إدراك فيل إلى جنبها. قلنا: هذا جائز في قدرته سبحانه وتعالى، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه في الصلاة لما عرضت عليه الجنة والنار، ونظر إلى كل واحدة منهما في عرض الحائط، وهما من أعظم المخلوقات، وأصحابه كانوا يدركون الذرة على ثوبه صلى الله عليه وسلم، ولون ثوبه مع صغر ذلك، ولم يدركوا ما أدرك. ولم يروا ما أرى، ولا يقدح في هذا إنكار من أنكر من المعتزلة، أن الجنة والنار لم تخلقا بعد، لأن الكل منهم سلم إلى الرسول عليه السلام أنه قد رأى في هذه الحالة شيئا من الجنة والنار، أو ما هو على صورهما، يخلق منهما إذا خلقتا، واختص هو صلى الله عليه وسلم برؤية ما لم يره أصحابه، وإن كانوا يرون الذرة لو دبت على قميصه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يروا ما هو أكبر منها وأعظم. وأبين من هذا: أن بعض الخلق يدرك صوتا خفيا جدا، ولا يدرك صوتا عاليا جدا، وإن وجد الصوتان في وقت واحد، ومسافة واحدة، وقد رأينا ذلك عيانا؛ فإن بعض الطرش إذا تكلم عنده رجل فأخفى صوته غاية الإخفاء، وتكلم آخر عنده بصوت من أعلى الأصوات أدرك الصوت الخفي، ولم يدرك الصوت العالي؛ وليس ذلك إلا لما ذكرناه، وهو أن الله تعالى خلق في سمعه إدراك الصوت الخفي، ولم يخلق في سمعه إدراك الصوت العالي، فكذلك يجوز أن يخلق في بصرنا إدراك الذرة الصغيرة، ويخلق فيها مانعا من إدراك الفيل الكبير " والله على كل شيء قدير " .
فإن قيل: فإذا كان كذلك فيجب أن يجوز أن يكون بحضرتنا ذرة ننظر إليها وندركها، ويجوز أن يكون إلى جنبها فيلة وأجمال وأنهار جارية، لأن ذلك جائز في المقدور، أو نشك في ذلك، ولعله يكون بحضرتنا ونحن لا نراه.
الجواب: أن هذا تخبط وجهل وقلة فهم؛ لأنه لا يلزمنا أن يجوز أن يكون بحضرتنا كل ما هو جائز في مقدور الله تعالى، ولا نشك فيه، لأن ذلك لو لزم للزمنا أن نجوز أن يكون بحضرتنا وعندنا في الدنيا جنة ونار، ونشك في ذلك؛ لأن الله تعالى قادر على ذلك، ولما لم يلزم ذلك لم يلزم ما ذكرتم، وكذلك أيضا من الجائز في قدرته تعالى أن يخلق اليوم رجلا لا من ذكر ولا من أنثى، ثم لا يجب علينا أن نجوز أنه الآن عندنا موجود أو نشك فيه، فكذلك ما قلتم، وكذلك أيضا يجوز في مقدور تعالى أن يميت أهل بلدة نحن فيها كلهم، ثم لا يلزم أن يجوز ذلك الآن أو نشك فيه، فكذلك ما قلتم؛ فليس كل جائز يجب أن يكون بحضرتنا، أو نشك فيه؛ فبطل ما قلتم، وصح الحق.
فإن احتجوا فقالوا: لو جاز أن يكون مرئيا لجاز أن يقال: يرى كله أو بعضه.
فالجواب: أن هذا محال من القول؛ لأن إطلاق الكل والبعض إنما يجوز على من كان ذا كل أو بعض، والله تعالى منزه عن الوصف بالكل والبعض، وهذا بمنزلة قائل يقول لنا: لو كان معلوما لجاز أن نقول: نعلم كله أو بعضه، فنقول له: لا نقول نعلم كلا ولا بعضا، بل نقول نعلم واحدا أحدا فردا صمدا: " ليس كمثله شيء " فكذلك نقول: نرى واحدا أحدا فردا صمدا ليس كمثل شيء وهو السميع البصير.
فإن قيل: لو كان أهل الجنة يرون ربهم تعالى ثم لا يرونه لكانت أحوالهم قد تناقضت وعادت من منزلة أعظم إلى منزلة أدون، ولا يجوز أن تتناقص أحوال أهل الجنة.
Página 74