فإن قيل: أليس قد قال موسى عليه السلام: " تبت إليك " قالوا: والتوبة إنما تكون من الخطأ، فلما عم عليه السلام أنه أخطأ تاب، فالجواب من أوجه: أحدها: أن موسى عليه السلام لما رأى عظيم الآية من جعل الجبل دكا، وصعوقه، قال على جاري العادة من القول عند الفزع " تبت إليك " وإن لم يكن سؤاله مستحيلا، وهذا كما أن الواحد منا إذا سمع الصوت الرعد العظيم، أو رأى الظلمة العظيمة، أو أمرا هائلا فزع عند ذلك إلى التوبة والاستغفار، وإن لم يكن منه قبل ذلك معصية. أو سؤال مستحيل.
وجواب آخر: وهو أنه يحتمل أن موسى عليه السلام ذكر عند هول ما رأى فيه النفس، فجدد التوبة منها وأكدها، وإن لم يكن منه في هذه الحالة ذنب يتاب منه.
جواب آخر: يحتمل أن يكون قال: تبت إليك للشدة التي أصابته عند سؤال الرؤية، وإن كانت الرؤية جائزة. كما أن الواحد منا إذا ركب البحر وناله شدة وخوف من هوله وأمواجه، أو سافر فلقى في سفره ما أتعبه وشق عليه يقول: أنا تائب من ركوب البحر ومن السفر، وإن كان ركوب البحر والسفر جائزا غير محرم. ولا مستحيل، وكذلك مسألتنا مثله.
جواب آخر: يحتمل أن يكون قال: " تبت إليك " من أن أسأل مثل هذا الأمر العظيم الجليل قبل الاستئذان فيه، حتى يؤذن لي في السؤال، ولهذا قيل عن موسى عليه السلام: إنه تأدب بعد ذلك، فقال: يا رب أسألك في جميع أموري ؟ قال: نعم يا موسى اسألني في جميع أمورك حتى ملح عجين أهلك.
جواب آخر: وهو أن موسى عليه السلام كانت إرادته وهمته تعجيل الرؤية له في الدنيا قبل الآخرة، وكان مراد الله تعالى تأخير الرؤية له إلى الآخرة، وأن لا يتقدم على نبينا صلى الله عليه وسلم في الرؤية، فكأنه قال: تبت عن مرادي وهمتي إلى مرادك. وهذا صحيح، لأن التوبة هي الرجوع، فكأنه رجع عن مراده إلى مراد ربه. فاعلم ذلك.
ويدل على صحة ما قدمناه من قوله تعالى. " وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة " وقوله تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وقوله: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " والحجب للكفار عن رؤيته عذاب. فدل على أن المؤمنين غير محجوبين، ولا يعذبون بعذاب الحجاب. فاعلم ذلك.
ويدل على ذلك أيضا الأخبار التي قدمنا ذكرها عند سؤال الصحابة مع قوله عليه السلام في دعائه إنه قال: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضر أو مضر ولا فتنة مضلة وهذا أيضا تصريح من الرسول عليه السلام في جواز الرؤية، وأنها غير مستحيلة، لأنه لا يسأل صلى الله عليه وسلم في أمر مستحيل، لا سيما بعد تقدم موسى عليه السلام في سؤال الرؤية، وما كان منه، فلو كانت غير جائزة أو مستحيلة لما سألها صلى الله عليه وسلم، فلما سألها دل على الجواز، وبطل ما قال أهل العناد. وبالله التوفيق.
ويدل على صحة جواز الرؤية إجماع الصحابة على جوازها في الجملة، وإنما اختلفوا هل عجلها لنبيه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أم لا ؟ على قولين، ولو لم يقع الاتفاق منهم على جوازها، لما صح هذا الاختلاف، فما وقع هذا الاختلاف فقال بعضهم: عجل ذلك له في الدنيا قبل الآخرة. وقال البعض: لم يرد دليل على الجواز في الجملة وأنه متفق عليه، وإلا كان يقول لمن قال بأنها لم تعجل: فكيف تجوز الرؤية وهي مستحيلة عليه، فلما لم يقل ذلك أحد منهم دل على إجماعهم على جوازها. فاعلم ذلك.
ويدل على ذلك من جهة العقل: أنه تعالى موجود، والموجود لا يستحيل رؤيته، وإنما يستحيل رؤية المعدوم. وأيضا فإنه تعالى يرى جميع المرئيات، وقد قال تعالى: " ألم يعلم بأن الله يرى " وقال. " الذي يراك " وكل راء يجوز أن يرى؛ ولا يجوز أن تحمل الرؤية منه تعالى على العلم، لأنه تعالى فصل بين الأمرين، فلا حاجة بنا أن نحمل أحدهما على الآخر، ألا ترى أنه سمى نفسه عالما، وسمى نفسه مريدا، ولا أن نحمل الإرادة على العلم، كذلك لا نحمل الرؤية على العلم. فاعلمه.
Página 70