ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة: إجماع المسلمين من الصحابة وهلم جرا إلى وقتنا هذا: أن الجميع منهم يطلق، ويقول في الخلاء والملاء من غير نكير: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فوقع الإجماع من الخاص والعام أن الأمور كلها بمشيئة وقدر من الله تعالى. وقيل أوحى الله إلى بعض الأنبياء: تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، وهذا نص واضح في أنه لا يكون في الدارين إلا ما أراد الله تعالى. وقد سئل بعض السلف فقيل له: بم عرفت ربك ؟ قال: بنقض العزائم. وفسخ الهمم، وذاك أن الواحد منا يعزم على الأمر ويهمم به، فيجري عليه غير ما عزم عليه وهم به، فعلم كل عاقل أن ذلك الفسخ لأن المقدر قدر له غير ما عزم عليه وهم به، فعلم كل عاقل أن ذلك الفسخ لأن المقدر قدر له غير ما قدر لنفسه، والمريد أراد له غير ما أراد لنفسه، فكان ما أراده العبد لنفسه. ولو شرعنا في ذكر ما روى عن السلف والخلف في هذا المعنى طال ولم يسعه كتاب.
### || فصل
ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة من أدلة العقل أن الملك إذا جرى في ملكه ما لا يريد، دل ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه، والله تعالى موصوف بصفات الكمال، لا يجوز عليه في ملكه نقص ولا ضعف ولا عجز، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده، ويريده أضعف خلقه فيكون. كلا سبحانه وتعالى أن يأمر بالفحشاء أو يكون في ملكه إلا ما يشاء. فثبت بحمد الله ومنه مذهب أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل.
فصل
في ذكر آيات وسنة يحتجون بها والجواب عنها.
فإن قالوا: فما معنى قوله تعالى: " والله لا يحب الفساد " قلنا: المراد به أنه لا يثيب على الفساد ولا يمدحه ولا يأمر به، فإن اسم المحبة إنما يقع على ما يثاب عليه ويمدح فاعله عليه، وليس كل ما يريده المريد يقال فيه أنه أحبه، ألا ترى أن المريد يريد بذل ماله للسلطان الجائر من هدية ورشوة ليتقي بذلك شره، ثم لا يقال إنه أحب ذلك، وكذلك الرجل اللبيب يريد ضرب ولده وقرة عينه ليؤدبه، ثم لا يقال إنه أحب ذلك، وكذلك يريد ربط جروحه وقطع سلمته وشرب المر من الدواء، ولا يقال إنه أحب ذلك. وكذلك الحميم يريد ويبادر في الحفر لميته وتجهيزه وتغييبه تحت التراب، ولا يقال إن محب لذلك ولا يؤثره. فعلم أنه ليس كل ما أراده المريد أحبه، وإنما يقال أحب الشيء إذا مدحه وأثنى عليه وأثاب عليه، والله تعالى لم يمدح الفساد ولم يثن على المفسد ولم يثبه.
جواب آخر: وهو ما ذكره بعض أصحابنا وهو. أن قوله تعالى : " والله لا يحب الفساد: يعني لا يحبه من أهل الصلاح والطاعة، وهو كقوله " ولا يرضى لعباده الكفر " يعني لعباده المؤمنين، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
فإن قيل أليس قد قال الله تعالى: " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء. كذلك كذب الذين من قبلهم " فدل على أن الشرك ليس بمشيئة الله تعالى فالجواب من وجهين: أحدهما: أن سياق الآية حجة عليهم، لأنه قال فيها " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " .
الجواب الثاني: أنهم إنما قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء، لا على سبيل الإيمان، وإنما قصدوا تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا " وهذا كقوله تعالى: " وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من من لو يشاء الله أطعمه " قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء، لا على وجه الإيمان والاعتراف بأن الله قادر أن يطعمهم. فلذلك قالوا: ما في تلك الآية وجعلوه لهم حجة، فجعله كذبا وأن حجتهم باطلة، فصح ما قلناه.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى. " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أراد بعض الجن والإنس. الذي يدل على صحة ذلك أن كثيرا من الجن والإنس يموت قبل أن يبلغ حد التكليف والعبادة، وصار هذا كقوله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " وأراد البعض لا الكل، لأن منهم من مات قبل الدخول وقتل قبل الدخول. الذي يقوى ذلك ويصححه: أنه قال في آية أخرى: " فرية هدى " يعني إلى الطاعة " وفريقا حق عليهم الضلالة " يعني عن العبادة والطاعة.
Página 63