فصل نذكر فيه شبها يزعمون أن لهم فيها حجة، وليس لهم حجة بحمد الله تعالى، كما قال: " حجتهم داحضة عند ربهم " فإن احتجوا بقوله تعالى: " جزاء بما كانوا يعملون " قالوا. فأثبت لنا العمل، والعمل هو الفعل، والفعل هو الخلق، فالجواب: أنه تعالى أراد ها هنا بالعمل الكسب، والعبد مكتسب على ما بينا. يدل على ذلك: أنه قال في موضع آخر: " جزاء بما كانوا يكسبون " نحن لا نمنع أن يكون سمى كسب العبد عملا له، إنما نمنع أن يكون العبد خالقا مخترعا لفعله مخرجا له من العدم إلى الوجود، وقد بينا أن الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلم يكن لهم في الآية حجة.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " فتبارك الله أحسن الخالقين " وبقوله تعالى: " الذي أحسن كل شيء خلقه " وبقوله تعالى: " وإذ تخلق من الطين " فالجواب من أوجه: أحدها: أنه يعني بقوله " أحسن الخالقين " يعني أحسن المقدرين، فعيسى عليه السلام يقدر الطين صورة، والخلق يقدرون الصورة صورة، لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود، فقال تعالى " أحسن الخالقين " أي المقدرين. فاعلم ذلك.
جواب آخر: وذلك أن الله تعالى هو الخالق لا خالق سواه، لكن لما ذكر معه غيره قال " أحسن الخالقين " وإن كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره، كما يقال: عدل العمرين، وإنما هو أبو بكر وعمر، لكن لما جمع بينهما سماهما باسم واحد، وكذلك قول الفرزدق:
أخذنا بأكناف السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
والقمر واحد، لكن لما جمعه مع الشمس سماها قمرين. وكأنه تعالى لما علم من الكفار ومنكم أن تجعلوا معه غيره خالقا قال " فتبارك الله أحسن الخالقين " على زعمهم أن معه غيره، وهذا كقوله تعالى: " وهو أهون عليه " على زعمكم، لأن عندهم أن النشأة أهون من الإعادة، فذكر ذلك على سبيل الرد عليهم والإنكار لقولهم إن معه خالقا غيره، لا أنه أثبت معه خالقا غيره.
جواب آخر: وذلك أن لفظة أفعل في كلام العرب: يراد بها إثبات الحكم لأحد المذكورين وسلبه الآخر من كل وجه، وذلك في قوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " فأثبت حسن المقيل لأهل الجنة، مع حسن المستقر، وسلب ذلك عن أهل النار أصلا ورأسا، لأن أهل النار ليس لهم حسن مستقر ولا حسن مقيل، فكذلك قوله تعالى: " أحسن الخالقين " أثبت الخلق له وأنه هو المنفرد به دون غيره. وكذلك يقول القائل: العسل أحلى من الخل لا يريد أن للخل حلاوة بوجه، بل يريد إثبات الحلاوة للعسل وسلبها عن الخل أصلا، ورأسا، فكذلك قوله " أحسن الخالقين " أثبت الخلق له دون غيره.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " فكيف يجوز أن يكون خالقا لكفر الكافرين، وعصيان العاصين، وفيه من التفاوت غير قليل.
فالجواب: أن هذا سوء فهم، وذلك أن هذا أراد به سبحانه وتعالى خلق السموات في الصورة، وأنه ليس فيها فطور ولا شقوق، أجمع المفسرون على ذلك، فلا حجة لكم فيها، ثم إن أول الآية حجة عليكم، لأنه قال: " خلق الموت والحياة " وبين الموت والحياة تفاوت، وهو خالق الجميع لا خالق لذلك غيره، فكذلك كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وإن كان بينهما تفاوت في الحكم فليس بينهما تفاوت في الإيجاد والاختراع وإحكام الخلق، فصح أن الآية حجة عليهم لا لهم.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " فوكزه موسى فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان " فلو كان الله الخالق لوكزة موسى لقال: هذا من عمل الرحمن، الجواب من وجهين: أحدهما: أن قول موسى هذا القول على وجه الأدب، أي: إني ارتكب ما نهيت عنه من شره النفس ووسوسة الشيطان، ألا تراه قال في ضلال السبعين من قومه لما لم يكن له في ذلك كسب: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " فيجب على العبد عند خطئه وذنبه أن يرد اللوم والتقصير إلى نفسه وإلى وسوسة الشيطان، ولا يرد ذلك إلى خلق الله تعالى وإرادته، لأنه يصير كالمحتج عليه تعالى، وليس لأحد عليه حجة: " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " . ومثل هذا قول أبيه آدم عليه السلام وحواء: " ربنا ظلمنا " فردا التقصير والنقص واللوم إلى أنفسهما، لأن هذا موضع الأدب والتذلل، لا موضع الاحتجاج، ومثل هذا كثير.
Página 58