El Golpe Otomano

Jurji Zaydan d. 1331 AH
95

El Golpe Otomano

الانقلاب العثماني

Géneros

ثم سمع وقع خطوات في الخارج أعقبها قلقلة المفتاح، فوثب من مجلسه إلى الباب ووقف ينتظر فتحه ليرى القادم، ففتح الباب ودخل منه حرسي ملثم وأشار إلى رامز إشارة التحية ثم أومأ إلى الخارج، فنظر رامز فرأى رجلا فوق الكهولة، قد تغيرت سحنته وطال شعر رأسه ولحيته حتى صار كالنساك الذين لا يمسون شعورهم بقص أو إصلاح. ومع انتظار رامز لوالده واطلاعه على خبر قدومه فقد أنكره لتغير سحنته عما يعرفه، إذ تولته الشيخوخة وشاب شعره واسترسل وامتقع لونه من طول الاحتجاب عن أشعة الشمس.

أما الوالد فحالما وقع بصره على ابنه صاح: «ولدى ... رامز ... حبيبي!» وأكب على عنقه وأخذ يقبله ويبكي من الفرح، فلم يتمالك رامز أن بكى وقبل أباه وهو يتفرس فيه، وما لبثا أن تعارفا وعادت إلى ذهنيهما الصورة القديمة التي عرفها كل منهما في صاحبه، فقال رامز: «أبي، ينبغي أن أشكر الله على وقوعي في هذا الأسر، إذ لولاه لم أوفق إلى رؤيتك وإنقاذك.»

فقاطعه أبوه قائلا: «إنما الفضل لرضى أمير المؤمنين ومراحمه، فلو لم يدب الحنو في قلبه لم يأت مجيئك ولا أسرك بفائدة، فقد أبلغني هذا الحرسي أن جلالة البادشاه أذن بخروجنا من هنا وأنه عهد إليك في أمور خاصة، فنشكر الله على نعمه. فالآن نحن هنا حتى يشير إلينا هذا الحرسي بما نفعل.»

أما الحرسي فكان واقفا لا يتكلم، ولما سمعهما يذكرانه أخرج من تحت إبطه صرة دفعها إليهما على أن يفضاها، ففتحها رامز فوجد فيها ثوبين مما يلبسه الياوران وأشار إليهما أن يلبساهما، ففعل رامز وهو ينظر إلى نفسه في المرآة فإذا هو كالياوران تماما. ووقف ينتظر ما يشير به الحرسي فأخرج من جيبه ورقة كالبطاقة دفعها إلى رامز، أشار إليه إشارة معناها: «أنني سأخرج بك من هنا، ثم تنطلق توا إلى محطة السكة الحديدية فتدفع هذه الورقة إلى رئيس محطتها فيركبك القطار إلى سلانيك.» والتفت إلى سعيد بك وأشار إليه أن يلبس فتوقف، وقال إنه لا يستطيع الخروج من يلدز في تلك الليلة، بل يفضل أن يصلح من شأنه قبل الخروج. فاستغرب ابنه ذلك منه وهم بأن يعترض، فأوقفه الوالد قائلا: «لا بد من بقائي الليلة هنا، وسأتبعك في الغد فنلتقي في سلانيك. فهل عندك شك في أمر العفو؟» قال: «كلا».

قال: «أستحيي من نفسي أن أخرج في الأسواق وأنا كالنساك، وقد قضيت في هذا المكان أعواما، وسأبقى فيه يوما آخر، وفي الغد أخرج وألحق بك في سلانيك إن لم يكن في الأستانة.»

فتأسف رامز على تمسكه بالبقاء، لكنه قال في نفسه: «لا بد من سبب بعثه على ذلك.» ثم أشار إليهما أن يتبعاه، وتقدمهما في طريق قصر مالطة حتى بلغوه، فأشار الحرسي إلى سعيد أن يدخل القصر، وأمر الحراس هناك أن يتسلموه. وقاد رامزا في طريق بين الأشجار حتى وصل به إلى باب من أبواب السور الخارجي، ففتحه بمفتاح معه وأشار إليه أن يخرج، وإذا اعترضه أحد من الحراس خارج يلدز فليقل له : «الذات الشاهانية »، وهو شعارهم في ذلك اليوم، وهي أول جملة نطق بها ذلك الحرسي الملثم منذ قدومه ومسيره مع رامز، ولم يفعل ذلك إلا مضطرا. ولما سمع رامز نطقه وجد صوته يشبه صوت عبد الحميد، لكنه لم ينتبه لذلك إلا بعد أن فارقه، ولم يخطر له أن ذلك الحرسي عبد الحميد نفسه، وإنما اعتقد المشابهة بين الصوتين.

جمعية الاتحاد والترقي

بلغ من دهاء عبد الحميد أنه أراد أن يخفي تهريب رامز حتى عن الحرس، فلبس لباس الحراس ومشى بين يدي رامز حتى أخرجه من يلدز، وله من وراء ذلك حكمة لا يدركها إلا الذين فطروا على المكر والدهاء. وبعد رجوعه دخل قصره كما يدخل بعض الحرس الخاص، وكان الحرسي الذي لبس ثيابه محبوسا في بعض الغرف فأخرجه وأمره أن يعود إلى موقفه فعاد. ولم يشك من رأى عبد الحميد داخلا بلباس الحراس وخروج هذا على أثر ذلك أنه هو الحرسي الذي دخل.

دخل عبد الحميد قصره وكل أهله نيام، فنزع تلك الملابس وارتدى ثياب نومه، ومشى إلى غرفة المطالعة وهو ساكت يفكر فيما فعله في تلك الليلة وهل أصاب أم أخطأ، ووجد على نضد هناك باقة من البنفسج تعود رئيس الفراشين أن يتحفه بها من وقت إلى آخر، لعلمه أنه يحب رائحة هذا الزهر كثيرا، فتناول عبد الحميد الباقة وتنشقها فانتعش، ثم أعادها إلى محلها وألقى نفسه على مقعد وتنفس الصعداء وهو يهيئ سيكارا ليدخنه. ثم أشعل السيكار وتمدد وبسط رجليه ورفع بصره إلى السقف وقد تألقت تلك القاعة بالأضواء، وجعل ينفخ الدخان ويتأمل حلقاته وهي تتصاعد متتابعة متعانقة، وأفكاره منصرفة إلى ما أتاه في ذلك اليوم من الأمر الغريب. ثم ناجى نفسه قائلا: «ظن ذلك الشاب أني وثقت به وبوعده، وسيزداد ثقة بصدقي متى أطلقت أباه! لكن بقاء رامز هنا لا فائدة منه لأنه مصمم على الإنكار، ولا فائدة لي من قتله إذا لم أقتل كبار تلك الجمعية الجهنمية. وزد على ذلك أن شيرين هنا في قبضة يدي وهو لا يعلم ، فإذا علم بعد ذلك أنها رهن عندي على وعده أتعب نفسه في الإنجاز. وقد أخبرني صائب بك أنه يتفانى في حبها، فإذا جاءني ولم يفعل ولا هي اعترفت بأسماء أولئك الناس قتلتهما. ولكن حيلتي ستنطلي على مؤسسي تلك الجمعية، ويرون من إطلاقي سراح أحدهم بعد أن قبضت عليه صدق نيتي في التماس آرائهم للإصلاح فيأتيني كبارهم، ومتى أتوا أذقتهم الموت فيخاف رفاقهم وتضعف عزائمهم، وتذهب هذه الجمعية كما ذهب غيرها من قبلها ونخلص منها.»

ثم اعتدل في مجلسه وزمجر كالأسد الجريح، ووقف بغتة وقد أخذ الغضب منه وقال: «تبا لكم من أغرار جهال! لن يبلغ كيدكم كيدي، ولسوف تذهبون طعاما للأسماك. إني لا أزال أسفك وأقتل حتى تخلو الدنيا من المعارضين لي، ومهما يكن من ثقتهم بي فإني على رأي ماكيافلي. لله در هذا الفيلسوف! صدقت يا ماكيافلي، إن الرجل العظيم لا يستطيع أن يستقل بحكمه وينجو من الرقباء والحساد إلا إذا أغضى عما يسمونه الشرف والأمانة والوفاء في معاملته لأعدائه ... ولا بأس عليه إذا ضحى هذه الفضائل في سبيل المحافظة على الدولة أو الوطن واستبدل بها المكر والدهاء أو ما يسميه الجهلاء خيانة وغدرا. ليست الخيانة أن أحتال على عدوي حتى أظفر به وأقتله وإنما هو الدهاء. وما فائدة الوفاء إذا اضطرني إلى إطلاق سراح رجل أعرف أنه يريد قتلي؟ بورك فيك يا ماكيافلي! نعم يجب أن أقتل كل من شككت فيه أو أخشى منه شرا، تلك هي سياسة كبار الرجال وهي التي سار عليها كبار القواد في تأسيس الدول. ألم يفعل ذلك أبو مسلم الخراساني نصير العباسيين في تأسيس دولتهم؟ ألم يفعله بأمر الإمام إبراهيم العباسي فكان يقتل على الشك؟ ولو لم يفعل ذلك لما قامت للدولة العباسية قائمة؟ فهل يلام عبد الحميد إذا سار على خطوات ذلك الإمام واقتدى بأكبر الفلاسفة العقلاء؟»

Página desconocida