وكان رامز قد بات ليلته يفكر في شيرين، وأكبر ظنه أنها فرت إلى مناستير. وفي الصباح جاءه ضابط ألباني يدعوه إلى القصر الصغير لمقابلة السلطان فتهيب الأمر لأول وهلة، ولكنه تجلد ومشى بين يدي الحرس حتى أتى باب القصر، فاستقبله أحد الياوران ودخل به إلى غرفة حيث فتش أثوابه للتحقق من خلوها من الأسلحة، ثم استأذن له فدخل رأسا بدون واسطة صاحب التشريفات كما أمر السلطان. ومشى متأدبا حتى وقف بباب القاعة التي يقرأ السلطان بها التقارير، وألقى التحية ووقف، فأشار إليه السلطان أن يتقدم، وأومأ إلى كرسي وأمره بالقعود فقعد، وهو لم يتعود الآداب المتبعة في مثل تلك المقابلات، ولم يهتم السلطان بذلك لانصراف فكره إلى استطلاع سر الجمعية، فصبر هنيهة ثم قال: «أنبأنا كاتبنا عزت باشا أنك ألهمت الصواب ورجعت إلى الطاعة والولاء، وقد سرنا ذلك، ولم نر بأسا من مثولك بين يدينا فإننا ينشرح صدرنا بمشاهدة خدمة الدولة الصادقين، وسنتحقق ذلك متى برهنت على إخلاصك لعرشنا.»
فأشار رامز بالتمني ولم يجب، ولكنه غلب عليه التأثر. ولو كنت إلى جانبه لسمعت دقات قلبه لفرط ما خاطره من التهيب لإقدامه على أمر لم يقدم عليه سواه، ولكنه تجلد وتماسك وبلع ريقه استعدادا للجواب، فبادره عبد الحميد قائلا: «تكلم يا بني. أخبرنا عن أولئك المفسدين الذين أغروك بالدخول في تلك الجمعية، يظهرون أنهم يريدون الإصلاح وهم إنما يسعون في الخراب ويقفون عثرة في طريق العمل، ويغررون بالشبان العقلاء فيصرفونهم عن خدمة الدولة إلى أعمال صبيانية. قل من هم؟»
فتجلد رامز وهو يخاف أن يخونه لسانه وشجع نفسه بتصور شيرين واقفة تسمعه، فأحس برباطة جأش لم يعهدها في نفسه من قبل فقال: «هل أقول وأنا آمن؟» قال: «قل ولا تخف.»
قال: «ربما قلت أمورا لا يتوقعها جلالة السلطان من مثلي، وأنا أعلم أني أعرض حياتي للخطر، وإنما يحملني على التصريح بها غيرتي على هذه الدولة.»
فابتدره قائلا: «قل ما تريده ولا تخف.»
قال: «أنا لا أسمي أعضاء تلك الجمعية مفسدين، ولا أعتقد أنهم يسعون في خراب هذه الدولة، بل أنا أعتقد أن المفسدين هم الذين ينقلون الأخبار إلى جلالة السلطان، أعنى طائفة الجواسيس الذين يرتزقون بالدسائس والوشايات، هؤلاء يا سيدي هم المفسدون.»
فبغت السلطان لسماعه هذا التصريح الذي لم يسمع مثله من أحد، لكنه تجلد كعادته وأظهر الاستحسان وقال : «يعجبني أصحاب الأفكار الحرة، لو كان رعاياي كلهم على مثل هذه الحال لنجت الدولة من المشاكل. قل ما تراه.»
فلما آنس رامز هذا التلطف من السلطان ذهب تهيبه واعتقد أنه فائز بما يريد، فأبرقت أساريره وخطر بباله أن الأحرار يظلمون عبد الحميد بما يشيعون عنه من حب الأثرة والظلم، في حين أنه لين الجانب قريب الانصياع إلى الحق، فقال: «أخشى يا مولاي أني أكون قد تجاوزت حدود الواجب بالجرأة في حضرة جلالة البادشاه، ولكنني أقول ما يوحيه ضميري. ويلوح لي يا مولاي أن الخلاف بين جلالتكم ورعاياكم إنما هو نتيجة لما يدسه المفسدون الطامعون، ولو علم الشبان الأحرار ما عليه سلطانهم من لين الجانب والرغبة في الحقيقة لما جعلوا بينهم وبينه واسطة فيحسن التفاهم ويذهب ما في النفوس، وهم عند ذلك عبيد طائعون لأن غرضهم خدمة الدولة و...»
فقطع السلطان كلامه وهو يظهر الاهتمام بما يسمعه وقال: «وأنا طبعا لا غرض لي غير مصلحة رعاياي ورفاهيتهم. ولكني عاتب على الذين يسيئون الظن بي منهم وينحازون إلى الأجانب، وإذا كانت لأحدهم شكاية فلماذا لا يرفعها إلي؟ إني لا أعد نفسي سلطانا عليهم، بل أعدهم جميعا أبنائي!»
فدهش رامز لهذا التلطف وظن نفسه في حلم، وخطر بباله سوء الظن بما يقصد السلطان، لأنه كان يسمع عن مكره ودهائه، ويعلم أن الأحرار لم يقصروا في رفع تظلماتهم إليه بالتقارير ونحوها. لكن تلطف السلطان أثر في نفسه فاعتقد خطأ ذلك الظن، وأن التقارير التي كان الأحرار يرفعونها إلى السلطان لم تصل إليه. وبهذا ومثله كان عبد الحميد يؤثر في جميع مخاطبيه، فكان أشدهم حنقا عليه وسوء ظن به لا يلبث إذا جالسه وخاطبه أن يخرج من عنده مقتنعا راضيا، وقد شهد كبار الساسة الأجانب له بهذه المزية في مناسبات عدة.
Página desconocida