فأعمل رامز فكره فيما سمعه وأغضى عما تخلل الحديث من سوء التعبير وفساد الذوق، لأن الأمر المهم عنده أن يعرف أين هي شيرين، فغلب على ذهنه صحة ذلك القول لعلمه بالصداقة المتمكنة بينها وبين صديقة لها في مناستير، وهي خطيبة صديقه نيازي بك، لكنه لم يفهم ذلك السبب الذي أوجب فرارها فتجلد وأعاد السؤال على طهماز قائلا: «لا تغضب يا عماه إذا سألتك سؤالا ثانيا، ما سبب فرار شيرين؟»
فضحك طهماز وقال: «سبب فرارها أنت! ألا تعلم أنك أوقعتنا جميعا تحت غضب الذات الشاهانية؟ ولولا صديقنا صائب بك لكنا تحت طائلة القصاص مثلك، ولكنه بلغ صدق عبوديتنا إلى مولانا السلطان فكافأنا بالإنعامات والرتب. وأما تلك الجاهلة الحمقاء فأبت إلا العناد، وقد وقفوا على أوراق لها بين أوراقك تشترك فيها معك ومع أصحابك في المفاسد، وقد علمت هي بذلك لكنها بدلا من الاعتذار أصرت على عنادها وخافت القبض عليها ففرت.»
فقال: «وأين أمها؟»
قال: «ذهبت إلى مناستير لتفقدها هناك، وهي لا تقل طيشا عنها، مع أني كثيرا ما أنذرتها بهذه العاقبة منذ رأيت خروجك على جلالة الخليفة أمير المؤمنين. ولولا علاقتي السابقة بالمرحوم أبيك لم ألتفت إليك ولكن قلبي طيب. وقد وصلت إلى يلدز في هذا الصباح، ولقيت كل إكرام واحتفاء من سعادة الباشكاتب والسر خفية وسائر الباشوات والياوران، وأنعم علي بالرتبة، وعلمت منهم أنك في هذا القصر فاستأذنت في مقابلتك لعلي أستطيع إقناعك لترجع عن عنادك. وقد أكد لي صائب بك أنك إذا بحت بأسماء مؤسسي هذه الجمعية يعفى عنك وتنال الجوائز والهدايا، كما يعفى أيضا عن شيرين. وقد نصحت لك مرارا فلم تنتصح حتى وقعت في شر أعمالك، وأرجو أن تكون قد عدت إلى رشدك، واقتنعت باتباع النصيحة.»
وكان لكلام طهماز تأثير شديد في قلب رامز لأسباب كثيرة، أهمها أنه ذكر أباه ملقبا إياه بالمرحوم، وكان لا يعرف أحي هو أم ميت، كما أنه زاد في أسباب قلقه بما رواه له عن شيرين. وقد أغضى مرغما عما تخلل ذلك من الكلام البارد والدعوى الفارغة. ورأى أنه لم يعد يتوقع فائدة من حديث طهماز، فأحب التخلص منه وقال: «سأتبع نصيحتك هذه المرة، ولذلك اعتزمت أن أقول الحقيقة، لكنني اشترطت ألا أقولها إلا للسلطان نفسه، وأنا في انتظار الموعد للمثول بين يديه.»
فضحك طهماز وهز رأسه وهو يقول: «أحسنت يا رامز، أحسنت. وستقابل جلالة السلطان فلا تخف عليه شيئا، وأرجو أن تذكرني بين يديه وتبين لجلالته أني كثيرا ما كنت أنصح لك. لا شك أنك ستنال العفو، هكذا أكد لي صائب بك، وستنال الرتب والأموال.» قال ذلك ووقف فودعه وخرج يتهادى في مشيته، ورامز ينظر إليه ويعجب من كبر جثته وصغر نفسه وقلة عقله. •••
عاد السلطان عبد الحميد بعد خروج عزت من عنده إلى التفكير فيما يحدق به من الأخطار، ولم يكن لديه شك في نجاح عزت في المهمة التي عهد إليه فيها، فقضى بقية اليوم في مطالعة التقارير. وبعد العشاء جلس يطالع في كتاب لمكيافلي كعادته، وإذا بالحاجب يدخل مستأذنا للباشكاتب، فعلم أن مجيئه في تلك الساعة لأمر مهم وأذن له، فدخل وقدم له ظرفا علم من هيئته أنه تلغراف، ففضه وقرأه فإذا هو من الأستانة وليس فيه إلا كلمات قلائل هي «إلي جلالة البادشاه: عندي أمور تهم الذات الشاهانية، أطلب الإذن في المثول لعرضها. شيرين.»
فأعاد عبد الحميد قراءة التلغراف مرارا، ثم نظر إلى الباشكاتب قائلا : «من شيرين هذه؟ أتعرفها؟»
قال: «لا أعرفها يا مولاي.»
فقال: «إلي بالسر خفية، وامض أنت وأجب عن هذا التلغراف بأن تأتي صاحبته حالا.»
Página desconocida