أصبح ماجد أحمد يتشبه بجده، يعمل بجد بعيدا من الأضواء، لا يتمتع بصفات الزعامة، أو الشخصية القيادية، موظف مجتهد يخدم الزعيم من دون أن يظهر.
لم يكن ماجد في الجامعة من زعماء الطلبة، طالب مجتهد سياسي جاد، يقف كالجندي المجهول وراء الزعيم أو القائد، يلمح فؤادة تمشي في الفناء وسط مجموعة من الطلبة والطالبات، قامتها طويلة كالعنقاء، في عينيها بريق، طموح خفي غير قابل للخضوع، في أعماقه أراد أن يمتلكها، أن يلوي هذا العنق الطويل ويدمي شفتيها بأسنانه ، رغبة دفينة في اكتساب الرجولة، غرستها فيه جدته منذ الطفولة: جدك يا ماجد كان راجل من ضلع راجل، مش زي الرجالة بتوع النهارده، الواحد منهم يمشي ورا مراته ويسمع كلامها، رجالة خرعين أوعى تكون زيهم، ارتبطت الرجولة في عقله بالسيطرة على زوجته وعدم السير خلفها أو سماع كلامها، كما ارتبطت لذة الجنس في أعماقه برغبة الامتلاك، ولذة الإيلام والقسوة، بالرغم من مظهره الهادئ شبه المستسلم كموظف مطيع للرؤساء، أول لقاء بينهما كان في رحلة جامعية إلى معبد أبي سنبل، في قارب على النيل جلس في جوارها، ومن حولهما مجموعة من الطلبة والطالبات، يتحاورون في السياسة في ليلة قمرية تتخللها نسمات نيلية طرية، مع كأس من الشمبانيا، أخرج أحد الزملاء الأثرياء من حقيبته الزجاجة الطويلة ذات العنق الرشيق، فرقعت السدادة في الهواء فضحك الجميع، كان ذلك في نهاية الخريف بعد اغتيال السادات بقليل وصعود مبارك إلى الحكم، مبارك شكله غبي وعبيط، لكنه حويط وغويط، إزاي يا أخي يكون قاعد جنب السادات، كتفه في كتفه، ويخرج من معمعة الرصاص، زي الشعرة من العجين، خرج سليم مية المية من غير رصاصة واحدة؟ - عاوز تقول إنه اتفق مع الأمريكان على خطة الاغتيال؟ - ليه لأ؟ - هما الأمريكان دول ربنا يا أخي، عندهم كل القوى الجهنمية الخفية دي؟ - ليه لأ؟ - نظرية المؤامرة دي خطيرة، شماعة الأمريكان والسي آي إيه والعفريت الأزرق وإحنا يا أخي إيه؟ إيه يا عزيزي؟
ورنت الضحكات على صفحة النيل والموجات الصغيرة تترقرق تحت ضوء القمر. - إيه رأيك يا ماجد؟
كان ماجد قليل الكلام يبدو شاردا حزينا وحيدا بالرغم من الصخب من حوله، لم يشعر باكتمال رجولته بين الرجال، يتفوقون عليه في السيطرة على قلوب النساء، يضحكون، يقهقهون بصوت ذكوري قوي، وهو يبتسم في هدوء، يبدو مترفعا عن السباق في معارك الكلام السياسية، التي يعشقها الطلاب، يبدو عميقا متكبرا على الشباب من عمره، يسمونه الأستاذ ماجد، مزيج من الهزل والجد. - عاوزين نسمع رأي الأستاذ ماجد، اسكتوا يا جماعة.
يظل صامتا، يتأملهم كأنه أستاذ يطل على التلاميذ، يزيدهم صمته تشوقا إلى سماع رأيه.
أخيرا يتكلم ماجد أحمد بصوت هادئ، عميق بطيء، مثل الأساتذة الكبار ويقول: أنا لست ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة يا جماعة، لكن اغتيال السادات مثير للشكوك، هناك أدلة أن السادات كان في شبابه مجندا في المخابرات الأمريكية ويتقاضى أجرا، لكن هل استمر في هذا العمل بعد أن أصبح رئيسا لمصر؟ ثم إذا كان السادات خادما لأمريكا فلماذا تقتله؟
رد الطالب صاحب زجاجة الشمبانيا، واسمه زكي، كان ثراؤه يكسبه ثقة بالنفس وشجاعة، يتحدى ماجد أحمد، ليس في أمور السياسة فحسب، بل أيضا في أمور الحب وجذب انتباه الطالبات، وقد لاحظ أن ماجد حرص على الجلوس في جوار فؤادة، البريمادونا، كما يسمونها، قال زكي: إن السادات أصبح ورقة محروقة في نظر الأمريكان، وبعد ما حقق لهم الصلح مع إسرائيل في كامب ديفيد وزرع الفتنة الطائفية في مصر، اتفقوا على التخلص منه، سواء بالتواطؤ مع مبارك أو من غير تواطؤ، فمبارك في أيديهم في كل الأحوال ويعمل معهم.
سكت الجميع يفكرون ثم قال زكي: إيه رأيك يا فؤادة؟
سألها زكي باهتمام، كان ثريا وسيما تتنافس فيه الطالبات، لكنه غير جذاب لعينيها البراقتين، قالت وهي ترشف الشمبانيا باستمتاع، وتتأمل ضوء القمر على صفحة النيل، وتملأ صدرها بالهواء: الكلام في السياسة يفسد جمال القمر.
هلل الجميع وشربوا نخب الجمال، لكن زكي اعترض متحديا فؤادة، وقال: القمر جميل والسياسة قبيحة فعلا، لكن يا جماعة إحنا طبقة طفيلية عايشين من عرق الفلاحين، إزاي نفكر في القمر الجميل وننسى الغلابة الفقرا؟
Página desconocida