لم تذهب إلى مكتبها في اليوم التالي، أصابها أرق فلم تغف إلا قرب الفجر، صداع حاد في نصف رأسها يصاحبها دائما مع الشعور بالاكتئاب، سمعت جرس المنبه فانتفضت رعبا، لكنها عادت إلى النوم حتى أيقظها جرس التلفون، جاءها صوت الدكتور طبيبها النفسي: يا كوكب كان معادك امبارح؟ - آه نسيت يا دكتور. - يبقى الحالة أحسن؟ - الحالة زي ما هي يا دكتور. - عاوزة تيجي النهارده؟ - أنا تعبانة في السرير. - تعبانة من إيه؟ - شوية برد وزكام. - استريحي يومين. - حاضر يا دكتور. - وبعدين كلميني. - حاضر.
أغمضت عينيها وغطت في النوم، دخلت أمها توقظها. - رئيس التحرير ع التلفون. - أنا نايمة يا ماما. - قلت له إنك نايمة. - شكرا يا أمي. - قالي صحيها. - باشتغل في عزبة أبوه؟ - قلت له ما قدرش أصحيها. - برافو عليكي يا أعظم أم في الدنيا. - كرامتك يا كوكب فوق الكل.
أمي الوحيدة أحس منذ طفولتي أنها تحبني، في عينيها نظرة مستقيمة غير ملتوية، العيون الأخرى تلتوي إن أطلت النظر إليها، حتى أبي لم تكن عيناه تثبتان في عيني، تنحرف إلى الناحية الأخرى بنظرة جانبية، عيون الناس ومنهم جدي وجدتي وعمي وعمتي كلها تلتوي بحركة غير مستقيمة.
كانت أمي الوحيدة صديقتي وعائلتي ووطني، وكل من لي في الدنيا، الوحيدة التي أحس أنها من دمي وجسدي وعقلي وروحي، يمكن أن أضحي بحياتي من أجل أمي فقط، لم أشعر أن الوطن هو وطني أو أبي هو أبي لأموت من أجلهما.
في اليوم التالي، جاءها صوت رئيس التحرير: إنتي فين يا كوكب؟ - أنا عاوزة إجازة مرضية يومين. - مش ممكن المفروض تسافري نيويورك. - ما اقدرش أسافر. - ليه؟ - عيانة. - عيانة بإيه؟ - عندي حرارة أربعين والدكتور أمرني أبقى في السرير أسبوعين. - أسبوعين ليه؟ هي أنفلونزا الطيور؟ - ماعرفش يمكن أنفلونزا الخنازير! - اسمعي يا كوكب لازم تحضري المؤتمر في نيويورك. - ماقدرش أسافر. - الوزير قرر إنك تسافري. - أنا مش باشتغل عند الوزير. - كده؟ - أيوه كده.
جسدها ينتفض رعبا، قد يصدر الوزير قرارا بفصلها، في أعماقها تود أن يصدر قرار الفصل وترتاح من عبء كتابة مقالها الأسبوعي، من عبء الكذب على القراء كل أربعاء، إلا أنها في اليوم التالي ذهبت إلى مكتبها في الجورنال، كتبت مقالها في ساعة واحدة وسلمته إلى المطبعة، اتصلت برئيس التحرير وقالت إنها تحسنت ويمكن أن تسافر لحضور مؤتمر نيويورك.
تحت لمبة النور تواصل فؤادة القراءة من كراسة حميدة، تسرب الحلم الممنوع إلى سريري ذات ليلة، رأيته يمشي خلسة مثل دودة الحرير تحت اللحاف، لم أدون شيئا عن هذا الحلم قبل أن أتعلم الكتابة. «الكتابة» تصرخ أمي «لعنها الله الكتابة.» عبارة واحدة من كلمات ثلاث لم أفهمها، أحس بها فقط حين تنطقها بقشعريرة برد، ورجفة تبدأ أسفل البطن وتنتهي بأطراف أصابعي، حتى بلغت الرابعة من عمري، قبل أن أتعلم الحروف أدركت أن الكتابة مثل جريمة القتل، تؤدي إلى السجن والموت ثم الجحيم بعد الموت (تقول أمي إن بابا يعيش في الجحيم بعد موته في السجن)، أدركت قبل النطق أن ما قبل الموت يمتد إلى ما بعد الموت، حروف الكلمات حين تنطقها أمي تتحول فوق جسدي إلى كائنات حية دقيقة، لها أرجل مشرشرة مثل أسنان المنشار، تترك فوق جلدي بقع دم مريبة، تلتقطها عين أمي في البيت وعين الله في السماء، وعيون الجيران المتلصصة من شقوق النوافذ والأبواب، قبل أن أتعلم الكتابة أدركت أنني أعيش رهن الرقابة الدائمة، عيون كثيرة تطل على سريري في اليقظة والنوم، في الأرض والسماء (كانت الأرض تبدو ممدودة في السماء لتصبح جزءا منها)، تصورت أن أبراج المراقبة الكونية تدون تفاصيل الحلم من تحت اللحاف، في خيالي صورة لها ترضعني، قطرات لبنها تملأ فمي مع دموعها، لم أفرق بين لبن الأم ودموعها في طفولتي المبكرة، كلاهما دافئ ناعم أبتلعه من دون وعي، حتى تعلمت تركيز نظرتي لأدقق الرؤية، أصبحت أفرق بين عين أمي وحلمة ثديها، لولا صورة أبي فوق الجدار لتصورت أنه لم يكن موجودا، كل الأشياء تبدو لي غير موجودة حتى أحسها بيدي، لا أكف عن ملامسة الصورة بأصابعي داخل إطارها الأسود؛ لأدرك عن يقين أن أبي عاش في الحقيقة، حتى اليوم بعد أن قاربت الثلاثين يبدو أبي حلما ... أسمع أمي تهمس لجارتنا فتحية «عنيدة زي المرحوم أبوها.» تقرب فتحية فمها من أذن أمي «راكبها عفريت اسمه الكتابة.» بعد أن تعلمت لغة الكلام عرفت أن ضمير الغائب في أحاديثهما الهامسة يعود إلي «أنا»، أحيانا ألتقط اسمي حميدة حين تسقط كلمة من بين أسنانهما المضمومة في لعاب داخل فم واحد، أتظاهر أنني لم أسمعهما، أخشى عقاب أمي (لم أتخيل في الحقيقة أنها أمي)، تقرصني في ذراعي أو فخذي، قرصتها لادغة غائرة تترك في اللحم حفرة حمراء تصبح زرقاء، لم يكن لشفتيها قدرة على الابتسام حين تلتقي عيناها عيني، كان أبي في الصورة يبتسم لي دائما، إن غيرت مكان الصورة فوق الجدار أو غيرت مكاني فوق الأرض، لا تتغير ابتسامة أبي، كنت أقضي الساعات في غرفتي، أغلق بابي بالمفتاح وأخلو إلى أبي، أنظر إلى صورته من الزوايا كافة، من اليمين واليسار والوسط، أصعد فوق الخزانة لأنظر إليها من فوق، أهبط إلى الأرض وأرقد فوق بطني لأنظر إليها من تحت، لم تتغير ابتسامة أبي ولا النظرة في عينيه المشعة بالضوء.
كنت مشغولة بسؤال يراودني قبل النوم وبعد النوم، يمتد النوم في اليقظة دائما، والحلم يمتد في النهار أيضا، أسأل نفسي منذ الرابعة من عمري (حتى هذه اللحظة لم تتغير الأسئلة منذ طفولتي): هل أحببت أبي لأني أحبه أم لأني أحب نفسي؟ هذا السؤال كان يراودني كالإثم كلما وقعت في الحب، أول حب في حياتي كان حب الله، ثم سمعت أمي تهمس في أذن فتحية «ربنا وضع بابا في السجن.» بعد موت أبي سمعتها تقول: «بابا مات في السجن بإرادة ربنا.» هكذا شفيت من الحب الأول.
الحب الثاني والثالث
كان الحب الثاني في حياتي لأبي، وكان الحب الثالث لأمي، تصورت أن أبي يستحق الحب أكثر من أمي، كان الناس ينادونني باسمه، يمتد الحب من الجسم إلى الاسم، كان لي زميل اسمه عوضين، يهمس في أذني: كان والدك وطنيا عظيما لكن ... يصمت طويلا، يرمق رجال الأمن عند المدخل، ترتجف أصابعه رجفة غير مرئية، ألتقطها بعين سحرية في عصب بالمخ، لم أسمع أحدا يتكلم على حاسة تزيد على السادسة، احتفظت بالسر لنفسي، خشيت أن يتهموني بخفة العقل أو الجنون، لم تعجبني النظرة في عيني عوضين، لكن عينه كانت مثل مغناطيس، يلتقط جسدي من ذرات الكون الهلامية، يخصني بالحديث عن الرئيس المستبد، والحكومة الفاسدة، والانتخابات المزورة، وينتهي حديثه معي بتركيز عينه على نهدي الأيسر.
Página desconocida