لا يرتدي شاكر بيه إلا المنامة المكوية، تقف سعدية ممسكة المكواة بيدها اليمنى، يدها اليسرى فوق ظهرها حيث الألم، تكوي قمصانه الإفرنجية ومناماته، وجواربه أيضا لا يلبسها إلا مكوية، لون الجورب يتسق ولون ربطة العنق، وياقة القميص ترتفع فوق عنقه منشاة.
ينام محملقا في السقف مستغرقا في أفكاره، لا يحكي لزوجته عن شيء، تعود الكتمان منذ الطفولة، عاش طفلا وحيدا، يتكلم مع نفسه، في المدرسة يمشي في الفناء وفي يده كتاب، في الجامعة كان له صديق واحد يسكن في الفيلا المجاورة بجاردن سيتي. - مش غريبة دي يا شاكر؟ - غريبة ليه؟ - طفلة تبقى حامل؟ - هي عمرها كام؟ - ستاشر سنة. - البنات بيجوزوا في الريف سن عشر سنين يا فؤادة ويخلفوا كمان. - خسارة البنت تفقد مستقبلها يا شاكر. - تفقده ليه؟ المشكلة بسيطة يا فؤادة. - بسيطة؟ - بالنسبة إلى المشاكل في الدنيا، أقله لها حل، عملية إجهاض في ساعة واحدة، وتكمل تعليمها في المعهد. - أنتم الرجالة لا يمكن تحسوا بمشاكل النساء، تصور أم تفقد طفلها بالإجهاض؟ تصور بنت تصبح أم وهي طفلة ومن غير زواج؟ تصور مشاعر سعدية أمها؟ - أتصور كوارث أكبر، البلد النهارده على كف عفريت، التظاهرات بالملايين في الشوارع في مصر كلها، من القاهرة إلى الإسكندرية إلى أسوان، الشباب والنساء والرجال، الطلبة والعمال وكل المناطق الشعبية، والعاطلون والمعدمون، نصف الشعب تحت خط الفقر، النظام لازم يسقط، سياسة القروض تسببت بالاحتلال البريطاني لمصر، الحكومة ماشية في ركاب أمريكا والبنك الدولي وصندوق النقد، حلقة مفرغة، زيادة القروض يعني زيادة الديون وزيادة فوائدها ويزيد التضخم وترتفع الأسعار.
القروض لها شروط تخرب البلد، رفع الدعم يعني رفع الأسعار، لا يمكن أن تنتهي التظاهرات، إذا لم يتغير النظام فستقوم ثورة الجياع. - أنا خايفة على حياة هنادي، أمها سعدية مسكينة وغلبانة. - أنا خايف على البلد كلها. - أنا خايفة عليك وعلى نفسي وبنتي داليا والطفل اللي جاي في السكة. - كل الناس تعبانة مش إحنا بس. - مش كفاية اللي حصل لنا.
فاكر يا شاكر؟ - أيوه فاكر يا فؤادة. - أنا مش عاوزة طفل تاني يا شاكر في الظروف دي. - الظروف دايما كده ويمكن يكون ولد ظريف نسميه ظريف.
يضحك شاكر من دون صوت وتزم شفتيها في وجوم.
كان رجال البوليس قد هجموا على البيت.
وضعوا الحديد في يديه وقادوه إلى التخشيبة ليقضي الليلة واقفا على قدميه مع القتلة والمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، من دون ماء أو طعام أو مرحاض أو نافذة. واقف على قدميه محاط بأجسام واقفة متلاصقة، تنز عرقا وغضبا في غرفة صغيرة، كان يمكن أن يختنق ويلفظ أنفاسه، في اليوم التالي أخذوه إلى سجن القلعة، وهو سجن قديم منذ عصر محمد علي، نزعوا من يديه الكلابشات وقضى يومين في حبس انفرادي داخل زنزانة لها بابان؛ باب داخلي خشبي وباب حديدي خارجي، رقد على الأرض بملابسه وحذائه الجلدي، كان مرتديا بذلة والبالطو من الصوف، طلبت زوجته فؤادة أن يرتدي البالطو، لكنه اعترض، أراد أن يثبت لضباط البوليس أنه رجل خشن يتحمل البرد، ولا يطيع زوجته، اعترض البوليس على البالطو أيضا، لكن فؤادة أصرت، وأخيرا خضع الضباط وحمل شاكر البالطو على يده.
في جنح الليل انفتح البابان ودخل شباب إلى الزنزانة تنزف منهم الدماء، في اليوم التالي في منتصف الليل نقلوهم إلى سجن الاستئناف بباب الخلق، حيث كان مئات من المعتقلين في التظاهرات.
استمرت المناقشات في السجن، اشترك فيها المسجونون مع السجانين، شكر السجانون الشباب الثوار وقالوا لهم: أنتم انتصرتم على الحكومة يا شباب.
في الصباح أحضر الشاويش لهم الصحف، المانشيت الكبير في الصفحة الأولى يقول: تم القبض على رءوس الفتنة.
Página desconocida