كانت أمي جالسة في الصالة تشاهد التلفزيون، وأنا جالسة وراء المائدة أشرب اللبن الساخن مع الكاكاو، وأتابع الصور المتحركة عبر الشاشة، ألاحظ أصابع أمي الطويلة النحيفة ترتعش فوق أزرار التلفزيون، تنتقل من قناة إلى قناة، تهتز الصورة الكبيرة منقسمة إلى مئات من الصور الصغيرة، تصعد الوجوه وتهبط، تنقسم بالطول والعرض، تتحول خطوطا رأسية وأفقية، سوداء وبيضاء وحمراء، تظلم الشاشة وتضيء وتظلم وتضيء، أنفاس أمي تلهث، أصابعها فوق الأزرار ترتعش أكثر، تظهر كرة قدم طائرة من فوق الرءوس ويرتفع صراخ الجماهير: جون جون. تختفي الصورة، تظهر راقصة نصف عارية تفرقع بالصاجات، يتلوى جسمها وينثني كأنما تشعر بألم والجماهير تهتف: الله الله، تختفي الصورة ويظهر الشيخ الكبير ذو اللحية الطويلة يقول بصوت وقور: الرجل يعمل من أجل الله، والمرأة تعمل من أجل الشيطان، عمليات زرع الكلية أو الكبد كفر بالله؛ لأنها تؤجل لقاء العبد ربه، ختان المرأة وحجابها وتعدد الزوجات أمر من الله. تصفع أمها وجه الشيخ بيدها وتغير المحطة، تظهر صورة رئيس الدولة على الشاشة المضيئة، يخطب في ذكرى النصر العظيم أو الثورة المجيدة، في يده منديل يمسح عرقه، ملامح وجهه متقلصة، تشبه ملامح الملاكمين ومدربي الرياضة وكرة القدم، جبهته عريضة تنزلق إلى شعر أسود مصبوغ بدقة، رأسه مربع قوي العظام مشبع بالسلطة، عيناه زائغتان تنظران إلى الفراغ، جفونه متورمة، انتفاخات في الجلد تحت العينين حتى الصدغين، عضلات وجهه متهدلة، تنم عن هزيمة خفية، فمه مفتوح على آخره يزعق: ذكرى النصر العظيم والثورة المجيدة. انتفضت أمها من مقعدها واقفة، شفتاها ممطوطتان في امتعاض، امتدت ذراعها وصفعت شاشة التلفزيون بكفها وهي تكلم نفسها، كانت هزيمة مش نصر ...
شاكر
لم تسمع أمي جرس الباب يدق، طغى الصوت الزاعق في التلفزيون على كل الأصوات. - الجرس يا ماما! - مدت أمي يدها إلى سماعة التلفون: آلو. - جرس الباب يا ماما مش التلفون!
سارت إلى الباب، تعثرت بالسجادة الملونة في الصالة، ارتطمت ساقها بالمنضدة في البهو، فتحت الباب، رأت رجلا أمامها، يحمل صرة ملابس، ملامح وجهه تشبه الصورة فوق الجدار، شاكر؟ أحاطته بذراعيها وهي تجهش بالبكاء، شمت في ملابسه رائحة السجن، العرق والدموع والدم، تطلع الأب بعينيه المتسعتين دهشة، أهي ابنته الجالسة وراء المائدة تحدق إليه؟ عيناها خضراوان لونهما من لون عينيه، أول مرة في حياته يراها، حدقت إليه، لا يشبه الرجل في الصورة، وجهه أكثر طولا ونحافة، شعر رأسه لم يعد أسود أو غزيرا، تتخلله شعرات بيض، جبهته أصبحت أعرض مما كانت، لكن عينيه خضراوان تشبهان عينيها: بابا؟
حملها بين ذراعيه عاليا إلى فوق فوق، ثم تلقفها بين يديه قبل أن تسقط على الأرض، تشهق فرحا وتجهش بالبكاء، يذوب الضحك في دموعها في الحمام، سمعتهما من وراء الباب، أبوها وأمها يشهقان وينشجان، ضحك وبكاء ثم ضحك وبكاء، بلغت الابنة ثمانية أعوام، تستطيع التمييز بين الشهيق والنشيج، أرض الشقة من الخشب، تلمعه الشغالة سعدية بالورنيش مثل حذاء أبيها، تخرج الأم كل صباح مع الأب، يعملان معا في الجورنال في شارع متفرع من ميدان التحرير، في المساء يذهبان معا إلى المسرح أو السينما أو إلى ندوة أو اجتماع، تسوق الأم سيارتها الصغيرة وفي جوارها يجلس الأب، كان يقود سيارته الخاصة حين يخرج وحده في الليل، أتدرب على البيانو في غرفتي التي تطل على الشارع الرئيسي، سريري له غطاء مزركش، فوق مكتبي كتبي وأقلامي وكراريسي، البيانو في الركن في جوار النافذة، اشترت أمي هذا البيانو في عيد ميلادي قبل فصلها من الجورنال.
كانت أمي في الصالة تتحدث مع أبي: أنا عارفة سبب قرار الفصل، الكل عارف السبب. - وساكتين ليه؟ - الكل خايف. - خايفين من إيه؟ - إنتي عارفة.
أمي اسمها فؤادة، فتحت عيني على وجهها وأنا أخرج إلى الدنيا، أبي لم أره إلا بعد ثمانية أعوام من مولدي، السيدة أم رءوف كانت تسكن الشقة في جوار شقتنا، تتحدث أمي عن أبي الغائب في السجن: يختلف عن جميع الرجال، ليس فيه خشونتهم وغلظ أصواتهم، قامته ممشوقة في كبرياء، انحناءة خفيفة تنم عن التواضع، يمارس الرياضة في النادي، أصابع يديه نحيفة طويلة، يعزف على البيانو أحيانا إن وجد الوقت، أنا أفضل الكمنجة لكني لا أجد الوقت، شاركنا في التظاهرات، كنا زملاء. تحملق السيدة أم رءوف في وجه الأم: الحب يا بنتي أعمى! مش الحب يا أم رءوف. أمال إيه؟ صداقة! - وإيه الفرق يا أستاذة بين الصداقة والحب؟ - زي الفرق بين فيلم أبيض وأسود وفيلم ملون.
مش فاهمة حاجة يا ست فؤادة. الابنة داليا تحدق بعينيها الخضراوين إلى السيدة الجارة، وجهها مربع أبيض، عيناها ضيقتان غائرتان كعيون الطيور الجارحة، جسمها سمين قصير مترهل، ترتدي جلبابا واسعا رمادي اللون، تلف رأسها بطرحة بيضاء، تمشي بخطوات بطيئة زاحفة، تبتسم في وجه أمها، وفي ظهرها ترشقها بعين مخيفة، ترى الابنة ظهر أمها ومن فوقه عين الجارة، كتبت داليا في مفكرتها بعد أن دخلت المدرسة: لا ترى أمي ظهرها إلا في المرآة، بعد أن ينثني جسمها وتلتوي حول نفسها، أدرب جسمي أمام المرآة لأرى ظهري، أنا أكره جارتنا لأنها تكره أمي من وراء ظهرها، تكتم الابنة السر خوفا من السيدة أم رءوف، كانت أمها تتركها معها في البيت حين تخرج، دق جرس التلفون، رفع شاكر السماعة: آلو، الأستاذة فؤادة في إسكندرية، حترجع يوم الإثنين. المفكرة في جوار التلفون فوق المنضدة، نوتة صغيرة مشبوك بها قلم رصاص بخيط رفيع، يسجل فيها الأب أو الأم رسائل التلفون في غياب أحدهما، كتب التاريخ في أعلى الصفحة، الساعة التاسعة صباحا، خطه متعرج قليلا، يقاوم رعشة غير مرئية لأصابعه، فوق يده آثار حرق بأعقاب سجائر وكعوب أحذية حديدية، كانت تقبلها زوجته وهو نائم، وتلثمها بشفتيها الدافئتين، رئيس التحرير طلبك بالتلفون، عاوز يقابلك في أقرب فرصة، كانت فؤادة واقفة فوق شاطئ البحر، ترتدي لباس السباحة، يسمونه المايوه، يكشف سلسلة عمودها الفقري، من العنق إلى الشق بين الردفين، ظهرها طويل مشدود، يمتد إلى عنق قوي يحمل شعرها الغزير الأسود، مرفوعا فوق رأسها، الردفان المشدودان بعضلات قوية، الساقان طويلتان مستقيمتان مسحوبتان برشاقة إلى قدمين سمراوين أظفارهما مقصوصة نظيفة، واقفة على حافة البحر الأبيض المتوسط، عيناها تحدقان إلى زرقة المياه الذائبة في زرقة السماء، حركت جسمها نصف دائرة ضد الشمس، ظلت واقفة تحدق إلى اللانهائي، ذراعاها الطويلتان على جانبيها مرتخيتان، هواء البحر واليود والوجود يخترق عظام ظهرها حتى أسفل فقرة، تأتي إلى البحر لتغسل نفسها مما يحدث في حياتها، بإصبعها الطويلة الصلبة المدببة تضغط على الحفرة تحت ضلوعها، تلامس إصبعها جدار قلبها الأملس وحافة المعدة المتقلصة، تغوص إصبعها حتى عظام ظهرها، تتذكر ما حدث وتنسى، تترك ذاكرتها للنسيان، الكسل اللذيذ وهواء البحر، تبتسم لنفسها، تتقلص الابتسامة مع انقباضة الشفة السفلى تحت أسنانها الأمامية، حادة بارزة مدببة، شفافة بيضاء ملائكية، تقاطيع وجهها حادة، منحوتة بقوة، بشرتها معبأة بالشمس واليود والملح، عيناها تحت الجبهة العالية عميقتان، الخدان بارزان تحت جلد مشدود رقيق يكاد يتمزق ويسيل منه الدم، ألقت نفسها في البحر وسبحت مع التيار حتى الصخرة، لا تجد لذة في السباحة السهلة، تفضل أن تسبح ضد الأمواج، تبذل جهدا ممتعا في مقاومة التيار، يأخذها البحر بعيدا عن الشاطئ، تختفي عن أنظار الحارس في كشك الرقابة، ينفخ في صفارته، يلوح بالراية السوداء، ثم يراها تخرج من كبد البحر مثل الشراع، تضرب المياه بقوة ذراعيها وساقيها عائدة إلى الشاطئ.
ارتدت ملابسها بسرعة داخل الكابينة، يحتفظ جسدها بالملح حتى تعود إلى البيت، ترتدي القميص الأبيض الفضفاض من الكتان، بنطلون واسع من الجبردين الرصاصي، حزام من الجلد ذو قفل حديدي مشدود فوق بطنها، جيبها الخلفي لم يعد فيه كيس النقود، نشله لص في محطة القطار، محطات القطارات تمتلئ بالنشالين، وأصابع اللص سريعة كلفحة هواء، مدربة خفيفة تسرق الكحل من العين كما تقول السيدة جارتها، البلد أصبح عامرا باللصوص والسماسرة ومهربي البضائع والمخدرات والجنس والأعضاء البشرية ومكاتب الاستيراد والتصدير، لم يكن معها ثمن تذكرة الترام، سارت إلى بيت صديقتها كوكب، من شاطئ ميامي إلى شاطئ جليم، حملها المصعد إلى الدور الرابع عشر، فتح لها الخادم الباب، قادها فوق مساحات من السجاجيد العجمية إلى الشرفة الكبيرة، امتد بصرها إلى المدينة كلها، تكاثرت الجوامع والمنارات ومن فوقها مكبرات الصوت أهلا أهلا فؤادة حبيبتي ...
ظهرت كوكب في الشرفة، قصيرة ممتلئة مربعة، تضع حجابا تزينه فصوص من اللؤلؤ، تترجح فوق كعب رفيع عال جدا، ترفل في ثوب أحمر شفاف، مشغول فوق الصدر بخيوط زرقاء، شفتاها مصبوغتان بلون أحمر قان، وجهها شاحب بالرغم من المكياج، عيناها صغيرتان تلمعان ذكاء، كانت مجتهدة في الدراسة تحفظ الدروس عن ظهر قلب، وقعت في حب زميلها الذي مات في إثر حادث سيارة، ساورها تساؤل عن معنى الحياة، لم يجب أحد في المدرسة أو الأسرة عن تساؤلها، بدأت زميلة مسلمة تتقرب إليها بإعطائها أشرطة مسجلة لأحد الدعاة المشهورين، أولها شريط عنوانه عذاب القبر، يحكي عن الثعبان الأقرع الذي ينزل إلى زنقة القبر المظلم، ويضرب البنت بذيله في أعماق الأرض لعدم ارتدائها الحجاب، أصابها الهلع، ساعدتها زميلتها على شراء الحجاب وارتدائه بحماسة، أصبحت تصرخ في وجه أمها قائلة: «إنتي كافرة، تحجبي، حاتموتي ويضربك الثعبان الأقرع بذيله في أعماق قبرك.» وألقت جميع أشرطة الموسيقى والأغاني التي أحبتها في القمامة، وانتزعت الصور عن حيطان البيت، وتمثال إيزيس الذي زينت به المكتبة في الصالة دفنته في حفرة في الأرض، وغطت جهاز التلفزيون بملاءة سوداء، ثم استمعت إلى الأشرطة الأخرى، وأصبحت ترى نفسها تمشي فوق الصراط المستقيم وعيون الشياطين في الجحيم تشير إلى جسدها العاري، الذي كتبت عليه فضيحتها بحروف من نار: هذه البنت لم تلبس الخمار. أخذتها الزميلة إلى محل أمام جامع أسد بن الفرات، فاشترت الخمار والأشرطة كلها لهذا الداعية المشهور التي تبلغ أربعين شريطا، غضب أبوها بشدة ونزع خمارها بالقوة فتمادت في التمرد على الأسرة، أخذتها أمها إلى الشيخ محمد الغزالي ليصحح أفكارها، لكنها لم تسمع له، سيطر الداعية الشهير على عقلها وقلبها فأحبته كالعبد للرب، أخلصت في خدمته وتوزيع أشرطته وتدريسها في الجامع، واستسلمت لكل ما يقوله وما يفعله، يضمها إلى صدره كالأب الحنون ويقرأ القرآن، أكبر من جدها فلم تشك فيه، في يوم فض بكارتها من دون أن تشعر بالخطأ، كان هو الصواب والحق المطلق، فوجئت بالحمل، تصورت أنها مريم العذراء تحمل المهدي المنتظر، فهي الوحيدة من نساء العالمين التي ذكرها القرآن باسمها وخصص لها سورة كاملة.
Página desconocida