الجوهري وحضرتُ كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: " إن النبي ﷺ طلَّق، وظاهر، وآلى "، فلما خرج؛ تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز، وعَرَّفَهم أمري؛ فإنه رأى إشارة الغربة، ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه.
فلما انفضَّ عنه أكثرهم؛ قال لي: " أراك غريبًا، هل لك من كلام؟ " قلت: " نعم "، قال لجلسائه: " أفرجوا له عن كلامه "، فقاموا، وبقيت وحدي معه، فقلتُ له. حضرت المجلس اليوم متبركا بك، وسمعتُك تقول: " آلى رسول الله ﷺ " وصدقتَ، و" طلق رسول الله ﷺ "، وصدقتَ، وقلت: " وظاهر رسول الله ﷺ "، وهذا لم يكن، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول، وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي ﷺ، فضمني إلى نفسه، وقبلَ رأسي، وقال لي: " أنا تائب من ذلك، جزاك الله عني من معلمٍ خيرًا ".
ثم انقلبت عنه، وبكَرتُ إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيتُه قد سبقني إلى الجامع، وجلس على المنبر، فلما دخلتُ من باب الجامع ورآني؛ نادى بأعلى صوته: " مرحبًا بمُعَلّمي، افسحوا لمعلِّمي "، فتطاولت الأعناق إليَّ، وحَدَّقت الأبصار نحوي، وتعرفُني يا أبا بكر " -يشير إلى عظيم حيائه؛ فإنه كان إذا سلم عليه أحدٌ أو فاجأه خجل لعظيم حيائه، واحمرَّ حتى كان وجهه طُلِي بِجُلَّنار (١).
قال: وتبادر الناس إليَّ يرفعونني على الأيدي، ويتدافعونني، حتى بلغت المنبر، وأنا لِعِظَمِ الحياء، لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاصٌ بأهله، وأسأل الحياءُ بدني عَرَقًا، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: " أنا معلمكم، وهذا معلمي، لمَّا كان بالأمس؛ قلتُ لكم: " آلى رسول الله ﷺ
(١) الجُلَّنار: زهر الرمان.