هبطت من الترام وسارت نحو بيتها، رأت على بعد رجلا يشبه الرجال الآخرين ذا كتفين عريضتين وجمجمة كبيرة وظهر محني، تفادت النظر إليه وأسرعت الخطى لتدخل بيتها، لكنه ناداها باسمها فالتفتت إليه، ورأت وجه أبيها. لا بد أنه رأى ذعرا شديدا على وجهها لأن عينيه اتسعتا في دهشة وقال : ما لك يا بهية؟
وأخفت عينيها بكفها وجرت من أمامه إلى البيت.
كان وجهها لا يزال شاحبا حين فتحت أمها الباب، لكنها لم تلحظ شحوبها. كانت شاحبة دائما، ومن الصعب على امرأة مثلها أن تقدر على تمييز درجات الشحوب، فهي قدرة نادرة تحتاج إلى قدرة على التحديق الطويل، ولم تكن أمها تقدر على التحديق في وجهها. كانت عيناها لا تقويان على الثبات في عينيها، واتخذت من ذلك دليلا على أنها كانت تخدعها منذ الطفولة، وأبوها أيضا خدعها، كان يظهر أمامها في البيت بجسد طويل ضخم، وظهر مشدود وكف كبيرة قوية قادرة على صفعها، مع أنه ليس إلا واحدا من آلاف الموظفين في الحكومة. •••
ثماني عشرة شمعة مضاءة فوق المائدة البيضاء، وأمها تملأ فمها بالحلوى، وحين تستدير تبصقها في الصحن وأبوها يبتسم في وجهها، ولكنها تشك في ابتسامته، أبوها كله أصبح حقيقة مشكوكا فيها، الشك كالشمعة له ضوء أحمر وله لسعة حادة كالإبرة. لا زالت تذكر اللسعة فوق أصبعها، والمائدة هي المائدة، ولكن كان عليها شمعة واحدة، كان عمرها عاما واحدا، الضوء الأحمر كانت تراه في عينها كجزء منها، وجسمها الصغير الناعم زاحف فوق الأرض ملتصق كقطعة منها، لم تكن قد انفصلت بعد عن الكون، ولم تكن يدها تستطيع أن تدور حول جسمها دورة كاملة، كانت يدها صغيرة وجسمها كبيرا ضخما يشغل المساحة الضخمة بين السقف والأرض، وحينما كانت تمد يدها وتتفقد ساقيها لم تكن تعرف أهما ساقاها أم ساقا الكرسي؟ وحينما رأت الضوء الأحمر في عينيها لم تعرف أهو ضوء الشمعة أم ضوء عينيها، وغاظها الشك فأرادت أن تتأكد، ومدت أصبعها فلسعتها النار، وعرفت الفرق بين اللهب وعينيها، ومن خلال الشك والألم أصبحت حدود جسمها تتشكل وأعضاؤها تأخذ شكلها الخاص.
سمعت صوت أمها يأتيها من فوق المائدة البيضاء، مجتازا ثمانية عشر لسانا رفيعا من اللهب: كل سنة وأنت طيبة يا بهية. دهشت ولم تصدق أنها بلغت ثمانية عشر عاما، هل دار الكون حول نفسه ثماني عشرة سنة؟ لم تعرف كيف سألت السؤال، لكن خيطا حريريا غير مرئي يربط دورتها بدورة الكون. حين كانت تحملق في قرص القمر تمتد بينها وبينه الخيوط الحريرية كالأسلاك تشدها إليه وتشده إليها، لكن جاذبية الأرض أشد، وهي بينهما تبدو ساكنة من فوق السطح، لكن أعماقها كدوامة البحر تغلي، تقاوم الشد من كل جانب، وينفجر في داخلها شيء صغير مستدير كالبالونة المنتفخة، وتخرج البيضة الدقيقة بحجم رأس الدبوس، وفي رأسها عين واحدة تحملق، تسبح إلى الأمام وتحملق باحثة عن لحظة الاتصال الأبدية، لتنسحق في الكون وتتبدد تماما.
أصبح وجهها أحمر في ضوء الشموع وظن أبوها أنها تخجل كفتيات الثامنة عشرة، لكنها لم تكن في الثامنة عشرة، ولم تكن فتاة، فما معنى فتاة؟ سألت السؤال لأبيها وأمها وزميلاتها في المشرحة، وحينما سمع الدكتور علوي السؤال دب ملقطه المعدني في بطن المرأة المفتوح وأمسك الرحم. مثلث صغير من اللحم بحجم ثمرة الكمثرى الصغيرة، أملس من السطح، ومجعد من الداخل وقاعدته إلى أعلى ورأسه إلى أسفل.
ثبت عينيه الزرقاوين في عينيها السوداوين وابتسم لكنها لم تبتسم. وشدها من يدها إلى المنضدة المجاورة وقال بلهجة الأستاذ: أما الرجل فهذا. وأمسك بطرفي الملقط عضو الذكر، ورأت قطعة جلد سوداء مجعدة كقطعة براز قديم. •••
حين عادت إلى البيت جلست أمام أمها وطلبت منها أن تحدق في وجهها طويلا ثم سألتها: هل أنا بهية؟ وتشهق أمها شهقتها الأنثوية المكبوتة إلى الأبد، وتقول: اعقلي يا بنتي! لم تكن أمها تفهمها، لكن كانت تفهم أمها، وحين تحدق في عينيها طويلا كانت تستطيع أن ترى رحمها، مكورا وقابعا في قاع بطنها، وتلمح عضلاته وهي تنقبض وتنبسط، وتنقبض وتنبسط، في نبض سريع متصل، كنبض الكون في سكون الليل، وبحركة لا مرئية ولا محسوسة كحركة الأرض. تود أن تضغط بكل قوتها على هذا الرحم لتبطل حركته السرية المجنونة، وليسكن إلى الأبد، لكن أمها تطرق بعينيها إلى الأرض، لا تقوى على النظر طويلا في عينيها. في أعماقها شيء تخفيه عنها، تدفنه في طيات نفسها، وتلف عليه أحشاءها طبقة فوق طبقة، ليصبح غير مرئي، وحركته مخفية لا نهائية، سرية إلى الأبد.
الأبد كلمة لا تعرف معناها؛ فاليوم يمر وراء اليوم، ودورة القمر تتعاقب مع دورة الدم في عروقها، والخلية المنتفخة في أعماقها تنفجر في اللحظة نفسها، وتدور البيضة الدقيقة حول نفسها دورانا سريعا مجنونا كدورة الأرض حول نفسها، وبعينها الواحدة تحملق في الكون باحثة عن فناء ذاتها، بلا جدوى يتكرر الإحباط كل مرة، مع دورة القمر اللامجدية، ويتراكم الغضب في أعماقها كسخونة الدم، يتجمع ويتراكم ويدور مع دورة الزمن داخل مجال جسدها، تحسه على يقين في خلاياها، إحساسا ملحا شديد الإلحاح، ينبئها بأن شيئا خطيرا سيحدث لها في يوم من الأيام، يوم معين محدد.
لم يكن من عادتها أن تحمل مفكرة بالأيام، ولم تكن تنظر إلى النتيجة المعلقة في حجرة أبيها والتي تراه يشد منها كل يوم ورقة، يشدها بالطريقة نفسها وفي اللحظة نفسها كل صباح، يشدها ويكورها بين أصابعه، وتشدها بعيدا وتصرخ في وجهه: اتركها! قبل أن يرفع أبوها يده الكبيرة عن الورقة تتوقع أنها أخطأت، وأن الشمس لم تتوهج بدرجة غير عادية، وأن عيني أمها هما عيناها ككل يوم، وأن ذلك الإحساس الغريب الذي انتابها ليس إلا وهما من أوهامها الكثيرة المتنوعة. وتستدير وتترك أباها ليشد الورقة كما يشدها كل يوم، لكنه لا يشدها، وتسمع صوته من خلف ظهرها يقول: كل سنة وأنت طيبة يا بهية، ويلتوي عنقها في حركة سريعة عنيفة، وتصطدم عيناها بالرقم 4 «أربعة» فوق الورقة البيضاء كخط زجاجي أسود، ويهرب الدم من وجهها ويصبح شاحبا.
Página desconocida