سارت بخطواتها الواسعة السريعة، تتلفت يمينا ويسارا، تتفحص وجوه الناس. كان الشارع مزدحما بهم، ووجوههم كلها متشابهة، وحركاتهم متشابهة، وأصواتهم متشابهة، وعيونهم حين تنظر إليها لا تراها، وأحست أنها تغرق في بحر دون أن يراها أحد، ودون أن يميزها أحد، وأن وجهها أصبح كوجه علية أو زكية أو نجية أو إيفون.
جرت بغير وعي نحو شارع المقطم، عيناها تبحثان في الأرض والشجر والسماء عن العينين القادرتين على رؤيتها، عن الوجه النحيل والملامح المرهقة المحملة بهموم البشر، نادت بصوت عال: «سليم!» لكن الجبل ابتلع الصوت والصدى. ورددت مرة أخرى بصوت عال: «سليم!» لم يرد عليها أحد، لكنها لم تستدر لتعود. كانت تدرك أنه موجود، كالسماء والهواء والشمس والقمر والأفلاك. ظاهرة من ظواهر الكون. تتنفسه في كل وقت، وتحس ملمسه فوق جسدها وهي سائرة أو جالسة أو نائمة، وحين تحملق في السماء ترى في زرقتها عينيه، وفي كل قوس مرفوع حاد ترى أنفه، وفي كل خطوة تدب بها على الأرض تسمع وقع قدميه. وكادت تستدير خلفها لتراه، لكنها لم تستدر. كانت تعرف أنه غير موجود، وأن السماء خالية منه، والأرض فارغة من البشر، والكون أجوف كالصندوق الفارغ، أفرغت منه الهواء مضخة خرافية.
بهية! رن صوته من خلفها فانتفضت. لم تجد أحدا شدت قامتها بقوة. في هذه الحركة القوية أدركت أنها ستذهب إليه، وأنها ستفني حياتها من أجل الذهاب إليه، وأن شيئا لن يحول بينها وبينه، لا الموت ولا طلقات الرصاص ولا الدم ينزف، ولا المشرط الحاد يقطع اللحم، ولا الباب الحديدي العالي ولا القفل.
سارت بخطوات سريعة واسعة كأنما تعرف هدفها، لكنها توقفت بعد لحظات. لم تعرف إلى أين هي ذاهبة. وحينما تلفتت حولها لمحت رأس أبيها من وراء زجاج نافذة تاكسي، وإلى جواره لمحت عمها، ورأس ثالث غريب برز أمامها من خلال ضباب كثيف فتذكرت ليلة زفافها. اختفت وراء جدار وهي تلهث. فمرق التاكسي بالرءوس الثلاثة في بحر العربات وابتلعه الخضم. خرجت من وراء الجدار وسارت في الشارع بساقيها القويتين المشدودتين، ووقع قدميها في أذنيها تعرفه، القدم وراء القدم، تدب بهما على الأرض، تتحدى الأرض، ترفع قدما إلى أعلى ثم تهوي على الأرض، كأنها ستخرق الأرض، وتتحدى العالم كله من حولها، من يقترب منها تستطيع أن تقذفه بقدمها، ومن يلمسها أو يحرك الهواء من حولها تستطيع أن تدب أصابعها في عينيه، ومن يقف في طريقها تستطيع أن تشق بطنه بمشرطها وتقتله. أجل تقتله. كانت قادرة في تلك اللحظة على اقتراف أي جريمة قتل، بل إن شيئا لم يكن يخمد النار المتأججة في نفسها إلا جريمة قتل. •••
الساعة الثالثة صباحا، تلك الساعة التي تسبق ظهور أول خيوط الفجر، والظلام يخيم على الحواري الطينية الضيقة، والبيوت القديمة المتلاصقة المتساندة بعضها فوق بعض كهياكل الأجساد المريضة، وأنفاس حي الدراسة المزدحم في الحجرات الضيقة تهب من شقوق النوافذ ساخنة محملة بتراب الجبل ورائحة العرق والبصل والكشري والسمك المقلي، والحي الذي يضج في النهار كخلية النحل مستغرق في النوم، نوم الأجساد المكدودة المهدودة يكاد يشبه الموت، والصمت لا يمزقه من حين إلى حين إلا نباح كلب، أو صراخ رضيع، أو عواء قط.
في تلك الساعة تكون الحركة على أشدها داخل الحجرة في بدروم البيت القديم، وتروس المطبعة الصغيرة تضغط الحروف السوداء فوق الصفحة البيضاء، وحين تمتلئ الصفحة تنقلب وتسحب التروس ورقة جديدة، سرعان ما تمتلئ بالسطور السوداء، فتنقلب وتظهر على الفور مكانها الورقة الجديدة البيضاء، والوجوه الثلاثة النحيلة مرهقة شاحبة، والعيون الست شاخصة تتابع حركة الورق الدائرية، ترتفع بينها عينان سوداوان إلى أعلى، ارتفاعتهما مألوفة، وسوادهما شديد، والأنف مرتفع حاد يشق الكون نصفين، والشفتان مزمومتان في إصرار وغضب.
بهية! يرن الصوت في أذنيها، فتتلفت حولها، وترى رءوف يرص الورق في الحقيبة الجلدية، وفوزي يضع المطبعة داخل تجويف في أرض الحجرة، وتعود الأرض مستوية كما كانت بألواح الخشب. ويئن في الصمت صوت الباب الخشبي الصغير وهو يفتح، وتدلف منه الأجسام الثلاثة واحد بعد الآخر، لا يمكن التعرف عليها من بينهم، فالظلام يخفي الوجه، وملامح الجسد في الظلمة متشابهة، والساقان داخل البنطلون عضلاتهما قوية مشدودة، واليد اليمنى تتدلي منها حقيبة جلدية منتفخة.
وفي الميدان الصغير ينحرف رءوف إلى اليمين ويبتلعه الشارع المظلم، ويستمر فوزي متجها إلى الميدان الكبير، أما بهية فتسير بخطواتها الواسعة السريعة نحو الأتوبيس الراقد في الموقف، صدرها يعلو ويهبط، وأنفاسها لاهثة تتقطع، والحقيبة الجلدية المنتفخة فوق صدرها، تحوطها بذراعيها كذراعي الأم تلتفان حول طفلها، وفي المحطة تهبط، تعرف هدفها، وتعرف أين تقذف بالحروف الملتهبة فوق الرءوس، أيها الناس استيقظوا، افتحوا النوافذ، وافتحوا عيونكم وانظروا السلاسل الملتفة حول أعناقكم وافتحوا، أذهانكم واعلموا أن عرق جبينكم يسلب، وزرعكم ينهب، ولحمكم يؤكل، ولا يبقى لكم إلا العظام، هياكل عظيمة متراصة في الطوابير، يسند الواحد الآخر، والأنفاس تتمزق بسعال متقطع، والدم أحمر ينزف من جرح غائر في الصدر.
تقذف بالحروف والكلمات في الوجوه، وتعود بالحقيبة فارغة، متخففة من العبء، تقفز بالحقيبة على الأرض كعصفور، وتدندن لنفسها بأغنية قديمة وبحركة الأطفال الفرحين بالعودة من المدرسة تهز حقيبتها الفارغة، وتقذفها في الهواء، ثم تلتقطها بيديها الاثنتين، وتلمح الرجل ذا العينين المتجسستين قادما بمشيته الحذرة، فترمقه بنظرة جانبية، وحين تحس به وهو يتعقبها تدخل في طريق آخر، وتضلله ثم تخرج إلى الشارع الواسع، يبتلعها الزحام كالمحيط، وتسير في الشارع بعينيها المرفوعتين، ترقب الناس وهم يدورون في طاحونة حياتهم اليومية من أجل لقمة العيش، والترام بسلمه المائل تحت الأجساد يصلصل صارخا بالعبء، وتدور عجلاته الحديدية فاغرة فاها لأي قدم تسقط. وعلى الرصيف تجلس العجوز العمياء باسطة يدها المعروقة إلى الأمام، وأطفال يتطلعون إلى العالم بعيون صفراء فاغرين أفواههم لأي لقمة تسقط، ومن نوافذ الترام والأتوبيس تلمح الرءوس المتشابهة والأعناق المشنوقة بأربطة العنق والعيون الجاحظة المذعورة، والتمتمات الخافتة بآيات الكرسي والنفاثات في العقد. ومن حين إلى حين تمرق سيارة طويلة سوداء كسيارة البوليس ومن خلف الزجاج اللامع تلمح الوجوه السمينة باللحم بعيونها الضيقة المتلصصة.
حين يهبط الظلام تعود بخطواتها الواسعة السريعة إلى حجرتها الصغيرة فوق السطح، تسمع صوت أنفاسها اللاهثة كنشيج متقطع، وخيوط العرق تجري فوق وجهها وتحت إبطها، تغلق الباب من خلفها بالذراع الحديدية، وتحكم إغلاق النوافذ، وتتمدد فوق السرير الصاج الصغير تحملق في الظلام. يبرز أمامها الوجه النحيل المرهق، والعينان السوداوان الزرقاوان القادرتان على رؤيتها، تهتف بصوت خافت: «سليم!» لكن أحدا لا يرد. تدرك أنها وحدها فتنهض وتشد اللوحة من تحت السرير، تسندها إلى الجدار، وتلتف أصابعها حول الفرشاة تضغط عليها، وتحس للضغط لذة غامضة تمتد من أصابعها إلى ذراعها إلى عنقها إلى رأسها كأنما خلال سلك كهربي مشدود.
Página desconocida