وزاده رفضي إصرارا من أجل الانتصار علي. في كل مرة يأتيني رجل بوليس من عنده وأنا أرفضه، وفي كل مرة يستخدم رجل البوليس معي أسلوبا جديدا، مرة يقدم لي المال، ومرة يهددني بالسجن، ومرة يقول لي: إن رفضي لمثل هذا الحاكم قد يعد إهانة لشخصه العظيم، ومن ثم يسيء إلى العلاقة بين البلدين، وأن الوطنية تستوجب مني أن أذهب إليه، وقلت لرجل البوليس إنني لا أعرف شيئا عن الوطنية، وإن الوطن لم يعطني شيئا، بل سلب مني كل شيء حتى شرفي وكرامتي، والغريب أن رجل البوليس صدم بكلامي صدمة حقيقية أخلاقية، فكيف يمكن لشخص أن يفتقد المبادئ الوطنية؟! وضحكت من المفارقة والازدواجية الأخلاقية، إنهم يأخذون مومسا لرجل، إنهم قوادون، ومع ذلك يتحدثون باحترام عن المبادئ الوطنية والأخلاقية، وأدركت أن رجل البوليس يطيع الأوامر فحسب، أي أمر يصدر إليه يصبح واجبا وطنيا مقدسا، يسوقني إلى السجن، أو يسوقني إلى فراش شخص مهم، كلاهما سيان، وفي كلا الحالين هو يؤدي باحترام واجبه الوطني المقدس، ومن أجل الواجب الوطني قد تحصل المومس على وسام الشرف، وقد تتحول جرائم القتل إلى بطولات.
وكنت أرفض الذهاب إلى أي واحد منهم؛ إن جسدي ملكي أنا، أما أرض الوطن فهي من أملاكهم هم، وقد أخذوني إلى السجن مرة بسبب رفضي أحدهم، فاستأجرت محاميا كبيرا بمبلغ كبير من المال، وخرجت من السجن براءة، بعد أن قررت المحكمة أنني امرأة شريفة، وأدركت أن الشرف يحتاج دائما إلى أن يفقد الإنسان شرفه، والحصول على الشرف يحتاج إلى المال، وتدور الدائرة المفرغة على الدوام.
لم أشعر لحظة أنني امرأة غير شريفة، كنت أعرف أن مهنتي من صنع الرجال المسيطرين على الدنيا والآخرة، وأن الرجال يفرضون على النساء أن يكن مومسات بأشكال مختلفة، ولأنني ذكية واعية فقد فضلت أن أكون مومسا حرة عن أن أكون مومسا عبدة، وفي كل مرة أعطي جسدي أقبض الثمن غاليا، وأستطيع بثروتي أن أستأجر ما أشاء من الخدم ليغسلوا ملابسي وينظفوا أحذيتي، وأستطيع أن أستأجر المحامي للدفاع عن شرفي، وأستأجر الطبيب لإجهاضي، وأستأجر الصحفي لينشر صورتي وأخباري. لكل شخص ثمن، ولكل مهنة أجر، ويزيد الأجر بارتفاع المهنة، ويزيد الثمن بارتفاع الشخص في السلم الاجتماعي. وقد تبرعت يوما بجزء من مالي لإحدى الجمعيات الخيرية، فنشرت الصحف صورتي، وأشادت بموقفي المشرف، وأصبحت كلما أريد جرعة من الشرف أو الشهرة سحبت مبلغا من البنك.
لكن أنوف الرجال تشم المال على نحو عجيب. فإذا برجل يرغب الزواج مني، ولكني رفضت؛ لا زال فوق جسدي الأثر الباقي من حذاء زوجي، وجاءني رجل آخر يرغب في الحب، فرفضت؛ لا زال في أعماقي الأثر الباقي من الألم السحيق.
وظننت أنني نجوت من الرجال، لكن الرجل الذي جاءني هذه المرة كان يرتدي مهنة معروفة ضمن الرجال، هي مهنة القوادين، وظننت أنني سأصرفه بمبلغ من المال. لكنه مومس قواد يحميها من القوانين ورجال البوليس، وأنا الذي سأحميك. قلت له: سأحمي نفسي بنفسي. قال: لا توجد امرأة فوق الأرض تحمي نفسها. قلت له: لا أريد حمايتك. قال لي: الحماية تفرض وإلا انقرضت مهنة الأزواج والقوادين. قلت: لا أقبل التهديد. قال: أنا لا أهدد، أنا أنصح. قلت: وإذا لم أقبل النصيحة؟ قال: سأضطر إلى أن أهدد. قلت: وكيف ستهددني؟ قال: لي وسائلي وأدواتي الخاصة، ولكل مهنة أدواتها.
ولجأت إلى البوليس، لكني اكتشفت أن صلته برجال البوليس أقوى من صلتي، ولجأت إلى القانون، فاكتشفت أن القانون يعاقب النساء ويغض عينيه عن الرجال.
وضحك الرجل القواد، وكان اسمه «مرزوق» وهو يراقبني من بعيد، وأنا أبحث عن شيء يحميني منه دون جدوى. وحينما لمحني وأنا أدخل بيتي دخل ورائي، حاولت أن أغلق الباب في وجهه، لكنه أخرج من جيبه سكينا وهددني، ودخل ورائي. قلت له: ماذا تريد مني؟ قال: أريد أن أحميك من الرجال الآخرين. قلت له: إن أحدا لا يهددني غيرك! قال: إذا لم أهددك أنا، فسوف يهددك رجل آخر؛ فالقوادون كثيرون. وإذا رغبت في أن أتزوجك أيضا فأنا مستعد. قلت: لا داعي للزواج أيضا، يكفي أن تأخذ أموالي، أما جسدي فهو ملك لي، وقال بلهجة رجال الأعمال الناجحين: أنا رجل أعمال، أجساد النساء هي رأسمالي، وأنا لا أخلط بين العمل وبين الحب. قلت له: هل تعرف الحب؟ قال: وهل هناك إنسان لا يعرف الحب؟! ألم تعرفي أنت الحب؟ قلت: عرفته. قال: وأين هو الآن؟ قلت: غير موجود، وأنت؟ قال: لا زال موجودا. قلت له: يا مسكين! قال: حاولت التخلص منه، ولم أستطع. قلت: هل هي امرأة أم رجل؛ القوادون يفضلون الرجال دائما! قال: إنها امرأة. قلت: وهل تنفق عليها؟ قال: أنفق عليها كل ما أملك، مالي ونفسي وجهدي وعقلي وجسدي وكل شيء، ومع ذلك فأنا أحس أنني لا أكفيها، وأنها تحب رجلا آخر. وقلت: يا مسكين! قال: كل الناس مساكين في الحب. وضحكت وقلت: لست مسكينة؛ لأنني لا أحب. قال وهو يثبت عينه في عيني: أنت واهمة، فأنا أرى في عينيك التحطيم الذي يفعله الحب بالعينين. قلت: الحب يضيء العينين بالنور ولا يحطمهما. قال: يا مسكينة، أنت لم تعرفي الحب، أنا الذي سأعرفك بالحب!
حاول أن يشدني إليه، لكني دفعته بيدي بعيدا، وقلت: أنا لا أخلط بين العمل والحب! قال: لا شيء عندي اسمه مستحيل.
أطبق ذراعيه حولي، وأحسست بالثقل المعهود فوق صدري، لكن جسدي ظل منسحبا منفصلا عني، جسدا سلبيا تماما، لم ينهزم ولم يستسلم، سلبيته نوع من المقاومة، فهو قادر على ألا ينفعل، وألا يشعر بألم أو لذة، وألا تهتز فيه شعرة واحدة.
واقتسم هذا الرجل معي أموالي، كان يأخذ القسط الأكبر، لكني كنت أرفضه في كل مرة يقترب فيها مني، وأقول له: مستحيل! فيضربني ويقول: لا شيء عندي اسمه مستحيل.
Página desconocida