* بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وإن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وسلام على إل ياسين.
Página 4
الإهداء
سيدي أبا عبد الله :
أرفع بكلتا يدي هذه الصحائف الوجيزة ، لأهديها إلى رفيع قدسك موقنا أني لست ممن يقوى على الرقي لأمثال هذه المعارج العالية ، أو تنفق بضاعته في مثل هذه السوق الغالية ، غير أني مستمسك بعروة هذه العترة الطاهرة ، ومتعلق بأغصان هذه الشجرة المباركة ، وأرغب جهدي في أن أحسب في عداد من أدركه الحظ بإسداء الخدمة إليهم. وهذا الذي بين يدي ما انتهى إليه عرفاني ، ووصل إليه علمي ، من الجمع والتأليف والتعليق وقيمة كل امرئ ما يحسنه ، فإن كانت فيه حسنة فهي منك وإليك ، وإن كانت فيه كبوة فتلك من قلمي الجموح ، ومن أولى منك بالإقالة من العثرات ، وقلما يسلم منها أحد مثلي ، وما أملي إلا أن تمن بابتياع هذه البضاعة المزجاة من وليك ، وثمنها القبول ، وما أغلاه من ثمن.
Página 5
الطليعة
لما كان الوقوف على حياة هذا الامام يتطلب درسا لشؤون الدولتين الاموية والعباسية اللتين عاصرهما أبو عبد الله عليه السلام ، وموقف هاتين السلطتين من أهل البيت ، ومعرفة من هم أهل البيت ، ومعرفة ما كان في عهده من المذاهب والنحل ، وما رأته الناس في الإمامة ، حق أن نذكر هذه الشؤون في الطليعة ، فإن بها تعرف ما كان من حياته السياسية والعلمية والاجتماعية ، والسبب الذي من أجله بث العلوم والمعارف ، وندب إلى الأخلاق والمحاسن وحث على التكتم في نشر هذه الفضائل وكتمان نسبتها إلى أهل البيت ، كما منع أولياءهم عن إظهار الولاء لهم والاعلان في التردد عليهم ، وهو ما نسميه ب « التقية ».
فهذه الطليعة يكون القارئ على بصيرة من حياة هذا الامام قبل أن يستعرض تفاصيلها.
* * *
Página 6
أهل البيت
من هم أهل البيت؟
يأتينا الكتاب الكريم ناطقا مبينا بقوله جل شأنه « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » (1) إنها لفضيلة لهم لا يدانيهم فيها أحد من الناس كافة.
ولا كرامة أنفس من إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من العيوب كافة ، ذلك التطهير الذي يريده اللطيف تعالى لهم بعنايته ، وهو غير مقيد برجس خاص ولا من شيء معين ، فيدل على عموم التطهير من كل عيب وذنب.
ويستفاد من هذه الآية الجليلة عصمة أهل البيت النبوي ، لأن كل ذنب رجس ، وارتكاب الذنوب لا يجتمع مع إذهابها عنهم وطهارتهم منها ، فهم إذن بحكم هذه الآية مطهرون من الأرجاس والذنوب ، وهل العصمة شيء وراء هذا؟
نعم وإنما الشأن كله في المعني بهذه الفضيلة التي امتازوا بها على جميع الامة. أهم الذين كانوا في البيت حين نزلت هذه الآية الكريمة؟ أم كل من يمت إلى الرسول الأطهر بسبب أو نسب؟ فإن قيل بالثاني فالواقع شاهد على خلافه ، لأنا نجد في نسائه من خالفته وتظاهرت عليه ، ولا رجس أعظم من ذلك. فلا بد من أن يكون نساؤه غير معنيات بها ، واستثناء بعض النساء دون
Página 7
بعض تحكم.
هذا فيمن يمت إليه بالسبب ، ونجد البعض ممن يمت إليه بالنسب يداني الموبقة ، ويقارب الجريمة ، ولا يصح أن يريد القدير سبحانه شيئا بالإرادة التكوينية (1) ثم لا يقع ، فلما كان مستحيلا أن يريد تكوين شيء فلا يكون عرفا أن النساء وعامة الهاشميين غير مقصودين من الآية ، لإتيانهن وإتيانهم ما ينافي التطهير ، على أنه لم يقل أحد بعصمة نسائه والهاشميين عامة.
ولو كان المقصود بها الإرادة التشريعية فلا وجه لارادة التطهير من أهل البيت خاصة ، لأنه تعالى يريده من الناس كافة ، فاختصاصه بهم على وجه الميزة والفضيلة يدلنا على تكوينه فيهم ، ثم ان الإرادة التشريعية إنما تتعلق بفعل الغير ، ومتعلقها في الآية فعل الله تعالى نفسه ، ولو كانت الإرادة تشريعية لقال : لتذهبوا وتطهروا أنفسكم.
فلا شك في أن المعني من الآية هو المعنى الأول ، أعني أن المقصود منها أناس مخصوصون ، وهم الذين كانوا في بيت سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم وقد جللهم بكسائه والتحف معهم به ، فنزلت هذه الآية عليهم وفيهم ، وهم علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام ، وعلى ذلك صحاح الأحاديث من طرق الفريقين (2).
ولو لم يكن هناك نقل يدل بصراحته على اختصاص هذه الصفوة الكريمة
وحاول الآلوسي في تفسيره روح المعاني بعد أن ذكر الأحاديث الجمة الواردة في اختصاصها بأهل الكساء أن يعمم الآية لهم وللنساء وللمؤمنين من بنى هاشم ، وما ذكرناه كاف في رده.
Página 8
بهذه الآية الشريفة لكان من آثارهم اكبر برهان على هذا الاختصاص ، فان أفعالهم وأقوالهم ترغمنا على الاعتراف بتلك النزاهة لهم.
وما خفيت هذه الحقيقة الناصعة على أهل البصائر من بدء نزول هذه الآية المحكمة حتى اليوم ، فكان أهل البيت عندهم أهل الكساء ، خاصة ، الذين حبوا بمكارم لا يأتي عليها الحصر ، وكان منها الطهارة من العيوب ، وذهاب الأرجاس والذنوب.
نعم ربما استغل بعض الهاشميين ومنهم العباسيون ظاهر عموم كلمة أهل البيت لتحقيق مآربهم والوصول إلى العروش ، فكان الهاشميون عامة يدلون على الناس بهذه الآية.
كما كان اسم التشيع أيضا قد يستغل فيراد به ولاء علي وأهل البيت بالمعنى العام ، لا خصوص أصحاب الكساء والأئمة من أولاد الحسين عليهم السلام إلا عند الذين لا تجرفهم سيول الرعاع ، ولا يعدل بهم عن الحق الصخب أو الضغط ، وما عرفت الناس التشيع بولاء هؤلاء الأئمة خاصة إلا بعد أن خيم السكون على الناس بعد الثلث الأول من الدولة العباسية ، حين قرت شقشقة العلويين وثوراتهم ، فتمخض القول وقتذاك بأهل البيت لهؤلاء السادة الأئمة.
وشاهدنا على ذلك أن بني العباس ما دبوا دبيب النمل على الصفا لارتقاء عروش الملك وتحطيم دعائم الدولة المروانية إلا بذلك الاسم ، بزعم أنهم أهل البيت الأقربون إلى صاحب الرسالة ، ليعطفوا بذلك عليهم قلوب الشيعة ويتخذوا منهم فعلة لبناء الكيان لسلطانهم ، وهدم بناء الدولة الاموية التي قاومت أهل البيت وشيعتهم طيلة أيامها ، وصبغت وجه الأرض من دمائهم المسفوحة.
Página 9
وما كان ليتم لبني العباس ما أملوه لو لا ادعاؤهم ذلك ، ولو لم يكن الذين نهضوا بهم واتخذوا منهم جسرا عبروا عليه إلى مآربهم شيعة لأهل البيت ، من دون تفريق بين العباسي والطالبي ، ولا بين العلوي والجعفري والعقيلي ، ولا بين الحسني والحسينى.
وهكذا كانت الدعوة والنهضة من كل هاشمي كنهضة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بالكوفة ثم بفارس وفيهما أولياء لأهل البيت ، وقد قضى عليه أبو مسلم بعد تفرق الناس عنه والتجائه إليه ، وما كان من زيد وابنه يحيى من النهضة ، ولا من الأخوين محمد وإبراهيم من الدعوة إلا لأنهم من أهل البيت وأن غاياتهم من الدعوة أخذ التراث من أعداء أهل البيت.
ولكن قد وضح للناس بعد ذلك أن بني العباس ليسوا من أهل البيت ، حين سلوا سيف البغي على أهل البيت قربى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعرف الناس أن الدعوة من بني العباس لقلب دولة أمية باسم الثأر لقتلى الطف وصليب الكناسة والجوز جان وغيرهم كانت سبيلا للوصول إلى أمنيتهم المقصودة ، لأنه بعد أن بنوا من جماجم اولئك الاغرار من محبي أهل البيت قواعد سلطانهم ظهرت كوامن صدورهم ، وما قصدوه من الوليجة إلى غاياتهم ، حتى أن محمدا وإبراهيم اختفيا عند قبض السفاح عن أعنة الحكم ، وما اختفيا إلا لما يعلمانه من سوء نواياه مع الادنين من الرسول ، والشواهد على ذلك من ضغطهم على أهل البيت وشيعتهم اكثر من أن تحصر ، وفي ثنايا الكتاب سيمر عليك من هذا القبيل ما فيه مقنع.
* * *
Página 10
بنو أمية
من هم بنو أمية؟
يفصح القرآن الكريم معلنا بقوله : « وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن » (1) ويحدثنا التفسير في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي رأى في المنام أن قردة تنزو على منبره فأعلمه جبرئيل أنهم بنو أمية يتغلبون على الأمر فيتنازعون على منبره وأنهم هم الشجرة الملعونة ، ثم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستجمع ضاحكا بعد ذلك حتى مات (2).
وجاء في ذم بني أمية والطعن فيهم كثير من التنزيل ، انظر الحاكم في حديث علي في قوله « وأحلوا قومهم دار البوار » (3) قال : هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة ، وتفسير ابن جرير في قوله : « وجاهدوا في الله حق جهاده » (4) فإنه قال : إن الذين أمر تعالى بجهادهم مخزوم وأمية (5)، إلى غير ذلك.
ثم ان الرسول الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم يتبع القرآن المجيد بقوله : اللهم العن بني أمية قاطبة ، وبأمثال ذلك ، لا سيما فيما يخص أبا سفيان وابنيه
Página 11
يزيد ومعاوية ، ولا تنس ما جاء عنه في آل أبي العاص ولا سيما في الحكم وابنه مروان. (1)
أترى لما ذا يمنح الكتاب المبين أهل البيت بذلك الثناء الجزيل ويذكر بني أمية بذلك السوء والذم ، أيكيل العادل تعالى لأولئك المدح جزافا ، ولهؤلاء الذم اعتداء ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
نعم إن الطاعة هي التي تقرب الخلق من الخالق ، وإن المعصية هي التي تبعد العبيد عن البارىء ، وإلا فان عباده لديه بالعطف واللطف وبالرحمة للمطيع وبالنقمة على العاصي شرع سواء ، فإنه يدخل الجنة من أطاعه وإن كان عبدا حبشيا ، والنار من عصاه وإن كان سيدا قرشيا.
فما كان دنو أهل البيت من حظيرة القدس حتى منحهم تعالى بذلك الوسام الأرفع الذي لم يحظ به بشر سواهم إلا لتقواهم وامتثالهم لأوامره ، وما كان بعد بني أمية عن ساحة الرحمة حتى صاروا الشجرة الملعونة في القرآن ، وحتى عمتهم لعنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مرة ، وخصت الكثير منهم اخرى ، مشفوعة بالدعاء عليهم ، إلا لعصيانهم لجبار السموات والأرضين ، واستمرارهم على العصيان.
ولو لم يقرئنا التاريخ قدر تلك الطاعة ، التي كان عليها أهل البيت ومبلغ ذلك العصيان الذي استقام عليه الامويون ، لكفى ذلك التقديس من الجليل في كتابه لأولئك ، وهذا الحظ من هؤلاء ، كاشفا عما عليه الآل من الطاعة
Página 12
والانقياد ، وأمية من التمرد والابتعاد.
وهذه النتيجة تلمسها من هذه النصوص الفرقانية والأحاديث النبوية من دون شحذ قريحة وغور في التفكير ، نعم لو سبرت السيرة الاموي ة قبل الاسلام وبعده الى انقراض دولتهم ، لعرفت أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كشفا بالكتاب والسنة عن تلك السيرة والسريرة الفائتتين ، وأنبأ عن الآتيتين ، وما كان ليخفى على الناس حالهما ، ولكن كان هذا التصريح قطعا لاعتذار أوليائهم ودحضا لمكابرات مشايعيهم ، ومع هذه الصراحة من الكتاب والحديث ما زال للقوم حتى اليوم أولياء وأشياع ، ومدافعون وأتباع.
ولأجل أن تطمئن القلوب بهذه الحقيقة ، نستطرد نبذا من أعمال أمية وبنيه أخبرنا عنها التاريخ الموثوق به.
مات عبد مناف وترك عدة بنين ، كان منهم هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس ، وكان هاشم أرجحهم عقلا وأسماهم فضيلة فاصطلحت قريش على أن توليه الرفادة والسقاية (1) وكانتا لأبيه عبد مناف ، فكان هاشم حيث رأت قريش ، وزاد في شرف أبيه أن سن الرحلتين رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، وقد ذكر هاتين الرحلتين الكتاب الكريم (2)، وما كانت غاية هاشم من الرحلتين إلا أن يكثر المال في قريش فيقووا به على إطعام الحاج ، وهذه فضيلة سامية أرادها هاشم لقومه ، وهذا شأن العظام الذين ينحون بقومهم عظائم الامور ، ومراقي الشرف الرفيعة.
ثم تقدم هو في الاطعام ليكون قدوة لقومه ، فأطعم وأجزل حتى غنت
Página 13
الركبان بجوده ، وحتى قال شاعره :
عمرو العلى هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
في أبيات مشهورة ، فصار يلقب بهاشم لذلك ، وغلب على اسمه عمرو (1) فكان الجود بعض فضائل هاشم التي سودته على قريش سادات العرب.
وانشطرت اخوته فصار المطلب الى جنب هاشم ، وصار نوفل وعبد شمس في جانب ، وهما ينافسانه ويحاولان أن يجارياه في مفاخره ، فيقصر بهما العمل ، فكان هاشم لكرم فعاله وجميل خصاله سيد البطحاء غير مدافع.
ولما مات عبد شمس وظهر أمية حاول أن يلحق بهاشم في شأنه بما عجز عنه أبوه من قبل ، وأين أمية من هاشم في سنه وشأنه ، وما ساد هاشم إلا لأنه مجمع الفضائل ، ولم يكن لأمية ما يسود به الفتى خلا المال والولد ولا يكفيان للسيادة اذا لم تكن الأعمال تلحقه بالمعارج السامية.
وطمع أمية يوما أن ينافر هاشما ، وذلك إقدام لم يرتقب من مثله لمثل هاشم ؛ ولا نعرف سببا في قناعة هاشم بهذه المنافرة وهو سيد الأبطح وشيخ قريش سوى علمه بأنه سوف ينفر أمية ، وبذلك كبح لجماع أمية وإذلال لنفسه المتطلعة لما ليس له كما كان ذلك ، فإنه قد نفره هاشم فأخرجه من مكة عشر سنين ، ولعل أمية كان يعتقد أن هاشما سيد الأبطح لا محالة ينفره ، إلا انه قنع من الشرف أن يقال ان أمية نافر سيد الحرم وجرى في مضماره.
ولما نبغ عبد المطلب بعد أبيه هاشم وعمه المطلب ، علا على شرف أهله ومفاخر آبائه ، فانبط ماء زمزم ولم يتوفق لها قرشي من قبل ، فحسدته قريش
Página 14
وراموا أن يشاركوه في هذه الكرامة والسقاية منها ، فأبى عليهم ، وطلبوا محاكمته عند كاهنة هذيل في الشام ، وعند ما رأوا منه الكرامات في طريقهم الى الشام عدلوا عن محاكمته ، وتركوا له زمزما وسقاية الحاج.
وهو الذي أنذر أبرهة قائد الأحباش والأمير على اليمن من قبل النجاشي ملك الحبشة حين جاء من اليمن بجيش كثيف قاصدا هدم البيت ليتحول العرب عن الحج إليه ، ولم يخرج عبد المطلب من البيت كما خرجت قريش هاربة من سطوة الأحباش ، فكان آخر أمر الأحباش الدمار ، كما أفصح عن ذلك الكتاب المجيد (1) فجاء الحال وفقا لما أنذرهم به سيد الأبطح.
فكانت قريش تحسده لهذه المفاخر ، وصاحب الفضيلة محسود ، وما اكتفى أمية بما لقيه من منافرة هاشم حتى حاول منافسة عبد المطلب ، فحمل أمية عبد المطلب على المسابقة ، فسبقه عبد المطلب واستعبده عشر سنين.
وكان حرب بن أمية أيضا يفاخر عبد المطلب بوفره وبأهله ، تجاهلا منه بأن الشرف إنما هو بالفضيلة ، والأعمال الجليلة ، حتى طلب منافرة عبد المطلب ، وتلك جرأة كبرى يدفعه إليها الحسد والغرور ، وإن علم يقينا أنه لا يشق غبار شيخ قريش ، غير انا نحسبه انه كان يعتقد أن المنافرة وحدها تجعل له المكانة العالية وإن نفره عبد المطلب ، ولقد تعجب النافر من طمع حرب في منافرة شيخ البطحاء ، والأعمال وجدها كافلة بخسران حرب ، فقال النافر لحرب :
أبوك معاهر وأبوه عف
وذاد الفيل عن بلد حرام
وهذا شاهد على ما كان عليه عبد المطلب وأهله ، وحرب وآباؤه من خلتين شهيرتين دعت وجوه الناس على الحكم لهاشم وولده في كل منافرة ومنافسة.
Página 15
ولا تنس حلف الفضول الذي هو خير حلف عقدته قريش بل العرب كلها ، لرد عادية الظلم ، والانتصار للمظلوم ، قد دخل فيه الرسول عليه وعلى آله السلام وذلك قبل الاسلام ، وقال فيه بعد ذلك : « لو دعيت إلى مثله لأجبت ». ذلك حلف هدد بالهتاف به الحسين عليه السلام معاوية بن أبي سفيان ، ووقف للطغاة الغاصبين بالمرصاد. فكم رد من مال نهب ، وعرض غصب ، وكان السبب فيه الزبير بن عبد المطلب ، ولم يدخل فيه النوفليون والعبشميون ، ويحق للسائل أن يسأل عن سبب امتناعهم عن الدخول فيه ، ألأن سببه الهاشميون؟ أم لأنه فضيلة سامية؟ أم لما ذا؟
هذه حال أمية لو استطردت بعضها قبل بزوغ شمس الاسلام. وأما لو نظرت الى مواقفهم بعد بزوغ تلك الشمس النيرة ، لأيقنت كيف كانت هذه الشجرة جديرة بنزول ذلك الكتاب الكريم ، لا لأن الايمان لم يدخل أعماق قلوبهم فحسب ، لأنهم لم يتركوا ذريعة لستر ذلك النور الساطع إلا توسلوا بها ، ولا معولا لهدم بنائه الشامخ إلا حملوه ، سوى ما كان منهم من أعمال يأباها العدل والمروءة ويمقتها الشرف والفضيلة.
وهل ينسى أحد ما قام به أبو سفيان من إيذاء الرسول قبل الهجرة ، وما ألبه عليه بعدها ، هذه أحد والأحزاب والحديبية وما سواها من أعمال خلدها التاريخ تنبئك عن حاله ، ومن صاحب العير وصاحب النفير غيره وغير بني أبيه العبشميين ، وكيف ينسى ابن الاسلام تلك الوقائع والتاريخ يذكره بها كل حين ، وما دخل أبو سفيان وابنه معاوية في الاسلام إلا حين أخذ الاسلام منهما بالخناق ، ولم يجدا مفرا منه ، وقد ألفهما النبي الحكيم بعد الفتح بالعطاء الوفر من غنائم حنين ، فأعان الطمع الخوف على ذلك التظاهر والقلوب منطوية على وثنيتها القديمة وعلى الحسد والحقد وانتهاز الفرصة للوثبة وأخذ تراث الأبناء
Página 16
والأخوال والأجداد ، الذين فرت أوداجهم سيوف الاسلام الصارمة.
ولم يطلق أبو سفيان أن يكتم تلك الضغائن النفسية ، فكانت تطفح على فلتات لسانه ، وكان اكثرها أيام عثمان (1) لأمانه من المؤاخذة على كلامه ، ومن أمن العقوبة أساء الأدب ، وكيف لا يأمن والأمر بأيدي صبيانهم على حد تعبيره حين ركل قبر حمزة بن عبد المطلب برجله.
وأما ابنه معاوية (2) فانه عند ما رأى الاسلام قد ضرب بجرانه الأرض ، ووشجت أصوله ، وبسقت فروعه ، تذرع به إلى اقتلاع جذوره وقد ملك معاوية ناصية البلاد والاسلام غض جديد ، فخالف كل شريعة من شرائعه ، وناصب كل حكم من أحكامه ، سوى أنه لم يخلع عند الظاهر ربقة الاسلام ، وكيف يخلعها وهي الوسيلة لنيله ذلك الملك الفسيح الأرجاء ، الملك الذي ما كان يحلم به صخر بن حرب بل ولا أمية من قبل ، وما كان يضره من تلك الظاهرة إذا كانت الذريعة لاقتناص مآربه الواسعة ، ولتحطيم قواعد الاسلام الرفيعة.
وكفى من حربه لسيد الرسل حربه لأمير المؤمنين عليه السلام وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « سلمك سلمي وحربك حربي » (3) وقال فيه :
Página 17
« تحارب من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين » (1) ولو كان القصد من حربه لأبي الحسن عليه السلام الطلب بقتلة عثمان لما أغضى عنهم حين انتهى الأمر إليه ، ولا أدري كيف كان معاوية ولي عثمان والمرتضى هو أمير المؤمنين ووليهم.
لعمر الحق ما كان شأن معاوية خافيا لندلل ونأتي بالشواهد عليه ، ولو لم يكن حربا للاسلام ولرسوله لما سن الشفرة للقضاء على آل الرسول ، والقرآن يهتف باحترامهم ومودتهم ، والرسول يدعو إلى ولائهم والتمسك بهم ، وما ذنبهم لدى معاوية إلا أنهم عترة الرسول ورهطه ، ورعاة الدين ودعاته ، ولو صافحهم أو صفح عنهم لم ينل مأربه من الزعامة ، ومقصده من حرب الرسول وشريعته. (2)
ولم يهلك معاوية مستوفيا لأمانيه من محاربة الرسول والرسالة حتى أرجأ ذلك إلى دعيه يزيد ، غير أن يزيد لم يكن لديه دهاء أبيه معاوية فيدس السم بالدسم لكيد الاسلام ، فمن ثم برزت نواياه على صفحات أعماله واضحة من دون غشاء ولا غطاء ، فما أصبح إلا وأوقع بالحسين سبط الرسول وريحانته وسيد شباب أهل الجنة ، وبرهطه صفوة الناس في الصلاح والفضيلة ، وما أمسى إلا وتحكم ما يشاء في دار الهجرة وبقايا الصحابة ، من دون أن يحول عن العبث بها دين أو مروة أو عفاف ، وما عتم إلا وهو محاصر للبيت ترميه حجارته وتفتك بأهليه ورمايته.
وأي رهط أذب عن الاسلام وأحمى لحوزته من الحسين وأهله؟ وأي بلد
Página 18
أظهر في اتباع الاسلام من الحرمين يوم ذاك؟ وهل أبقى ابن ميسون شيئا من مقدوره في مبارزة الاسلام لم يصنعه ، ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته وصحابته لم يفعله؟! ولو أردنا استقصاء أعمال أمية التي حاربت بها الشريعة وصاحبها الأمين لكثر عليك العد ، وخرجنا عن القصد ، أجل لا ضير لو أوردنا نتفا أشار إليها المقريزي صاحب الخطط في رسالته « النزاع والتخاصم » والجاحظ في رسالته التي ضربها مثلا للمفاخرة بين بني أمية وبني هاشم ، فكان مما أورداه :
إن بني أمية كانوا يختمون أعناق الصحابة ، وينقشون أكف المسلمين علامة استعبادهم ، وجعلوا الرسول دون الخليفة ، ووطئوا المسلمات في دار الاسلام بالسباء ، وأخروا الصلاة تشاغلا بالخطبة ، وكانوا يأكلون ويشربون على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبيعون الرجل في الدين يلزمه (1).
وهذا بعض ما ذكراه من المنكر منهم ومخالفتهم للشريعة ، وهل يا ترى خفي عليهم الدين وحدوده ، وأنظمته وقيوده ، وكفى من تلك الحرب الشعواء التي أقاموها لمنازلة الشريعة الأحمدية زيادة على ما سبق أنهم اعتبروا الرسالة ملكا تلعب به هاشم ، وجعلوا الكتاب غرضا للنبال ، وجاهدوا أن يحولوا الحج إلى بيت المقدس ثم إلى المسجد الذي بنوه بدمشق ، ورميهم من على المجانق البيت الحرام.
ولا تسل عما لقيته العترة الطاهرة الأحمدية منهم ، فمن صليب الكناسة وصليب الجوزجان زيد وابنه يحيى إلى قتيل بالسم كالحسن والسجاد والباقر عليهم السلام وأبي هاشم بن الحنفية وإبراهيم بن محمد أخ السفاح ،
Página 19
ونظائرهم. هذا سوى المشردين في الآفاق ، والمغيبين في قعر السجون.
وكان خيرة القوم في سيرته عمر بن عبد العزيز ، فانه عرف ما عليه الناس من بغضهم لأهله ، فحاول أن يغير الرأي فيهم ، والقول عنهم. (1)
ولا غرابة لو رضي الناس بحكومة هؤلاء القوم ، لأن الناس إلى أمثالهم أميل وبأشباههم أرغب.
إن الدين يتطلب من الناس التقوى سرا وإعلانا ، والسيرة العادلة فى القريب والبعيد ، كما يتطلب الانتهاء عن الفحشاء ما ظهر منها وما بطن ، والكف عن الاعتداء في الرضى والغضب ، وما أبعد الناس عما يتطلبه منهم الدين ، وأين من تقوده نفسه والنفس أمارة بالسوء إلى اتباع الشريعة وإن ضيقت عليه سبل الشهوات وحرمت عليه الظلم والاعتداء.
ولو أراد الناس الهدى لما خفي عليهم الرعاة أرباب العدل والحق والايمان والصدق ، ولما ارتضى منهم أولئك الرعاة غير هذه الخلال الكريمة ، وإن الناس لتبتعد عن هذه الفضائل العلوية ابتعاد الوحش من الملائك ، والحصباء من نجوم السماء.
ولو سبرت أحوال الناس لأيقنت بصدق تلك الكلمة النبوية الخالدة : « كيفما تكونون يولى عليكم » (2)، وهل يرتضي ذو العلم أن يحكمه الجاهل ، والعادل أن يقوده الفاسق.
Página 20
ولو لم يجد رعاة الجهل والجور والفجور أعضادا من أمثالهم وسكوتا عن أعمالهم ، لم تطمع نفوسهم بالانقياد إلى الهوى ، والاسترسال مع الشهوات ، ولم تطمح إلى الغض من كرامة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنابذة رسالته ومحاربة عترته.
إن درس نفسيات اولئك الأقوام وسبر أعمالهم تجسم لك الغدر والخيانة والتحزب للضلال على الهدى ، وللباطل على الحق ، حتى لتكاد أن تعجب كيف لم يندرس الحق ، وتنطمس أعلام الهداية إلى اليوم ، ما دام أنصار الحق في كل عصر ومصر قليلين جدا « وقليل من عبادي الشكور ». (1)
وأين تغيب عن هذه الحقيقة ، ونظرة واحدة في عصرنا الحاضر تريك كيف تتمثل المنافسة بين الباطل والحق ، وتغلب الأول بأنصاره على الثاني وأعوانه ، وليس الغريب ذلك إنما الغريب أن يتفق انتصار أرباب الحق في بعض الأعصار وينخذل الباطل ، ولو انتصر أبو الحسن والحسن على معاوية ، والحسين على يزيد لكان بدعا في الزمن دون العكس في الحال ، وما كان انتصار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد تلك الحروب الدامية إلا إقامة للحجة ، « ليحيى من حي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة » (2) ولو غلب الكفر على الاسلام لم يتم نوره ، ولا قامت حجته.
إن الرسول الأمين جاء للناس بكل فضيلة وسعادة وخلق كريم وقد وقفوا دون أداء رسالته ، وتنفيذ دعوته ، وما رسالته إلا لخيرهم ، وما دعوته إلا لسعادتهم ، ولأي شيء أبت نفوسهم عن الاستسلام لتلك الفضائل غير مخالفتهم لها في السيرة والسريرة دأب البشر في كل عصر ، وهل خضع الناس لقبول تلك
Página 21
السعادة إلا بعد أن علا رءوسهم بالسيف ، وضرب خراطيمهم بالسوط ، وما أسرع ما انقلبوا على الاعقاب بعد انتقاله إلى حظيرة القدس ناكصين عن سنن الطريق ، حين وجدوا مناصا للعدول « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا » (1).
بيد أن الأموية مخضت عن أفذاذ ثبت الايمان في قلوبهم ، ونهضوا مع الحق حربا للباطل ، ولا عجب فإنه تعالى : « يخرج الحي من الميت » (2) ولا شك أن اللعن لا يعمهم ، والكتاب الكريم يقول : « لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » (3) « ولا تزر وازرة وزر اخرى » (4) « من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها » (5) « ما على المحسنين من سبيل » (6).
* * *
Página 22
بنو العباس
ساد ظلم الأمويين الناس عامة ، وما اختص بالأبرار ، ولا بعترة المختار صلى الله عليه وآله وسلم فمقتهم آخر الأمر أهل السوء كما أبغضهم أهل الصلاح ، فقام الباكيان باك يبكي على دينه وباك يبكي على دنياه ، وصار الناس تتطلب المهرب من جورهم ، وتريد الخلاص من حكمهم ، كانت أمية تهدد بلاد الاسلام كافة بأهل الشام ، لأن الشام جندهم الطيع الذي لا يحيد عن رأيهم ، ولا يتخلف عن أمرهم ، وبأهل الشام واجتماعهم ملك معاوية مصر والعراق والحجاز ، مع ما في الحجاز والعراق من رجال الرأي والشجاعة الذين كان افتراقهم مطمعا للشام باجتماعهم ، وما ساق ابن زياد الكوفة على ابن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بغير الوعيد بأجناد دمشق والوعد بالمال ، وما تغلب عبد الملك على العراقين والحرمين واستلبها من آل الزبير إلا بتلك الأجناد ، كانت الشام لا تعرف غير أمية للملك بل للخلافة ، بل لكل دعوة وطاعة وما زالت أمية مهيمنة على البلاد الوسيعة.
حتى إذا اختلف بنو أمية بينهم وصار بعضهم يقتل بعضا اختلف أهل الشام باختلافهم ، وافترقت كلمتهم لافتراق القادة الذين ضللوهم وأضلوا بهم.
ولما اختلفت كلمة الأمويين اشرأبت الأعناق لسلطانهم ، وطمعت
Página 23