وهذا عيب شنيع ألفت إليه نظرك ونظر زملائك، وأريد أن تتبرأوا منه جميعا. إنكم تظنون أن واجبكم يحتم عليكم دراسة فنكم والتوسع فيه ما أمكن وكفى، فإن كان عليكم واجب ثقافي آخر فقراءة جريدة سياسية أو مجلة خفيفة، تقرأونها عند تنقلكم في الترام أو القطار، أو للتسلية قبل النوم، فإن تم هذا كله ظننتم أنكم أديتم واجبكم نحو عقلكم ... ولا بأس بعد ذلك أن تجهلوا عمر الخيام وأمثال عمر الخيام، وأن تجهلوا ما يجري في العالم من شئون اجتماعية وثقافية عامة أدبية، وفي هذا من الخطأ ما يجب أن تتحرر منه أنت وأمثالك.
إنك إنسان قبل أن تكون مهندسا أو طبيبا أو تاجرا أو نحو ذلك، وإنك إنسان ذو عقل، كما إنك إنسان ذو معدة، وكما يجب عليك تغذية معدتك يجب عليك تغذية عقلك، وليست الهندسة أو الطب أو نحو ذلك، تغذي عقلك إلا في ناحية محدودة ضيقة. إن الهندسة تغذي مجموعة صغيرة من الغدد في المخ، أما سائر الغدد فلا تجد غذاءها في الهندسة ولا الطب ... إنما تجد غذاءها في المعلومات العامة والثقافة العامة؛ ولذلك كثيرا ما تجد مهندسين أو أطباء أو نحوهم، وهم مع معرفتهم الواسعة بمهنتهم عوام أو أشباه عوام ... فيما عدا فنهم الذي تخصصوا فيه. تسمع جدالهم أو آراءهم في غير فنهم، فيضحكك حديثهم كما يضحكك حديث من لم يتثقفوا، وليست الجرائد والمجلات الرخيصة كافية للغذاء الجيد الناضج في شيء، بل إن كثيرا من هذه المجلات الرخيصة تضر أكثر مما تنفع ... عمادها إثارة الغرائز الجنسية بحديثها وقصصها ومناظرها، فهي تعالجها - وتعالجها وحدها - كأن ليس في الوجود شيء غير هذه الغريزة، فأعيذك بالله من أن يكون أفقك في الحياة هذا الأفق الضيق المحدود.
أي بني!
إن أخاك هذا ذكر لي بعد ذلك أنه انتقل من إنجلترا إلى السويد ليتمرن في مصانعها الهندسية، وأنه صحب مهندسا سويديا يحب القراءة في الكتب الأدبية وفي كتب النفس والاجتماع ونحو ذلك، وأنه بمخالطته ومصادقته تعلم منه القراءة ... فكان يرشده إلى الكتب القيمة التي يجب أن يقرأها، ويستحثه أن يغشى المكاتب ويقلب فيها نظره، ويشتري ما يعجبه موضوعه منها، فنمت عنده ملكة القراءة، وأنه على أثر ذلك - بسبب هذا الصديق - انضم إلى جمعية فرضت على أعضائها أن يجتمعوا كل أسبوع مرة، وأن يحضر أحد أعضائها بالتناوب حديثا كل أسبوع حسبما يختار، يقرأ فيه ما استطاع قراءته ثم يعرضه عليهم، وبعد سماعه يتناقشون فيه مناقشة تطول أو تقصر، وانقلبت هذه الجلسة إلى لذة عقلية ممتعة له، حتى كان يترقب تلك الساعة ويتمناها طول الأسبوع، وأنه استفاد منها فائدة كبرى غيرت حياته، وغيرت عقليته. ومن ذلك الحين أصبحت له مكتبة تشمل كتبا من كتب «أدلر» في علم النفس، ومن كتب «موم» في الأدب، ومن كتب «برتراند رسل» في الفلسفة، ونحو ذلك. ثم كان كأنه خلق خلقا آخر. فأناشدك الله أن تعمل مثل هذا.
أي بني!
لست أريد أن أقيم لك البراهين بأكثر من أن تقارن بين شباب قضوا أوقات فراغهم في لعب نرد أو شطرنج أو حديث فارغ في الأندية والمقاهي، وبين شباب أحبوا الكتب والمطالعات، ووضعوا لهم برامج في تثقيف نفوسهم وتوسيع عقولهم. أريد أن تقارن بين هاتين الطائفتين أيهما أكثر لذة ومتعة لأنفسهم، وأيهما أكثر نفعا لأمتهم، وأيهما أجدر بلقب إنسان؟
أي بني!
لا تظن أنك تستطيع أن تكون مهندسا عظيما بقراءتك في الهندسة وحدها، ولا أن يكون زميلك طبيبا عظيما بقراءته في الطب وحده ... فالعقل وحدة، وثقافته في أي موضوع آخر يفيده في الموضوع الذي تخصص فيه. فكم أتت فكرة هندسية عظيمة من قراءة كتاب في الأدب، أو في الاجتماع! وكم أتت فكرة طبية سامية من ثقافة اجتماعية أو فلسفية. ويخيل إلي أن كثيرا من الأطباء ينقصهم المنطق مثلا، فلو تعلموا شيئا من المنطق لاستطاعوا أن يحددوا بالضبط نوع المرض ونوع العلاج، وخاصة في الأمراض التي تتشابه أعراضها، وتتقارب أوصافها؛ فالمنطق وحده هو الذي يستطيع أن يقول - بناء على هذه الأعراض المتشابهة - إن هذا المرض كذا دون كذا، والطبيب الناجح هو الذي منح ملكة منطقية بالفطرة، ولو نميت هذه الملكة الفطرية بشيء من الفلسفة والمنطق التعليمي لكان صاحبها أنبغ وأعظم.
أي بني!
مفتاح هذه المشكلة أن تجتهد أول أمرك أن تكون لك هواية في فرع من فروع الثقافة العامة، كنوع من دراسة التاريخ، أو نوع من الأدب، أو نوع من الدراسة النفسية أو الاجتماعية بجانب دراستك الخاصة ... تبدأ فيه على مهل، وتحبب نفسك فيه رويدا رويدا، كما يفعل من يريد أن يمرن نفسه على هواية الزهور أو جمع أوراق البريد أو الرسم أو نحو ذلك، فإذا صبرت على هذا قليلا قليلا، وجدت أن لذتك تنمو شيئا فشيئا، ولا تزال كذلك حتى تصبح هذه الهواية «كيفا» لا تصبر عنه ولا تستطيع العيش بدونه، ولكنه «كيف» راق سام نبيل نافع. فإذا وصلت إلى هذه الدرجة استسخفت من يضيعون أوقات فراغهم في الحديث التافه واللعب السخيف والقراءة الرخيصة، وأحببت أن تصادق من قويت ثقافته ونضج تفكيره، ونعمت هذه الصداقة.
Página desconocida