وتمضي الحياة
نعم يا أبي تمضي الحياة بحلوها ومرها، بإرادتنا أو رغما عنا ستمضي وقد مضت حياتنا وكانت فيها لحظات فرح كثيرة، كلحظة تخرج أخي الذي أصررت أن يعمل معك ثم اختلفتما بعد فترة وترك العمل معك في شركتك وعمل كمحاسب في بنك. وكانت هناك لحظة فرح أخرى وهي تخرج سلوى من الجامعة بعد عدة سنوات رسوب، ولكنها أخيرا تخرجت ففرحت أمي بذلك كثيرا، لكن سرعان ما تبددت تلك الفرحة بسبب رغبة سلوى بالعمل كمرشدة سياحية ورفض أمي الشديد لذلك ومع إصرار سلوى احتدم الخلاف بينهما وتفاقمت المشكلة فلجأت أمي إليك لأول مرة، فقلت لها: خليها تشتغل في المجال اللي هي عايزاه وسيبيها تشوف الدنيا وتتعلم، أنا واثق في تربيتي لبنتي.
فقالت أمي بسخرية: تربيتك؟! - أقصد تربيتك لها، وأنا عارف أخلاق بنتي، سيبيها ومتخافيش عليها، مش البنت اللي مقفول عليها هي اللي لازم تبقى محترمة، بالعكس البنت اللي متربية كويس وعندها ثقة في نفسها مهما عاشت بطريقة منفتحة هي بس اللي تقدر تحافظ على نفسها أو تفرط فيها، وممكن البنت المقفول عليها تعمل بلاوي ومحدش داري بيها. - اتفقنا هاسيبها تشتغل مرشدة بس على مسئوليتك. - موافق.
وبالطبع تحملت أمي وحدها المسئولية والقلق كعادتها، لكن ما طمأنها قليلا أن سلوى أثبتت جدارتها في فترة قليلة.
كانت هناك لحظاتي الخاصة التي اعتدت غيابك عنها، لكني كنت أتمنى أن تشاركني فيها بقلبك لا بمالك، مثل لحظة نجاحي بتفوق في الثانوية العامة ومكافأتك المالية السخية، لكنها لم تسعدني كما أسعدتني فرحة أمي واحتفال إخوتي والأقارب والجيران بي، وكلحظة تخرجي من كلية الألسن في قسم اللغة الإنجليزية بتقدير جيد جدا التي قابلتها بمنتهى الجمود وكأنني شخص غريب عنك. كنت غائبا بقلبك عن لحظات سعادتي، لكن ذلك لم يمنعني من الشعور بالسعادة مع أمي وإخوتي.
كما اختارت سلوى وسليم طريقهما اخترت أنا أيضا طريقي، فعملت في إحدى الشركات الكبرى للترجمة براتب ضخم، ولكنه كان عملا منهكا للغاية ولم أهتم بتعبه بقدر ما اهتممت بتحقيق النجاح وإثبات كفاءتي. كان مجتمع العمل جديدا علي يختلف عن الجامعة تماما؛ فالكل هنا يتعامل بلا حدود في الضحك وتبادل الأخبار والأسرار الشخصية؛ لذا فقد كنت شخصية غريبة عنهم؛ فأنا دائما صامتة لا أتكلم إلا في حدود العمل فقط، فلم يكن لي أصدقاء، والكل يتجنبني حتى زملائي وزميلاتي في المكتب، كنت معتادة على الوحدة فلم أهتم بتجنبهم لي.
حتى ظهر هو، عصام ذلك الشاب الجريء، أو كما يسمونه بالشركة الدنجوان بسبب تعدد علاقته بالفتيات وسهولة وقوعهن في حبه؛ لأنه يجيد التلاعب بقلوبهن كما يجيد الكلام المعسول، ولأنه أيضا وسيم بقامته الطويلة وقوامه المعتدل وبشرته الخمرية وعيونه العسلية الواسعة وابتسامته الساحرة. لم أكن أعلم أن عصام دخل في تحد مع الجميع أني لن أصمد أمامه، ولكنه دخل المكتب وجلس على طرف مكتبي يحمل وردة حمراء وقال بهمس: صباح الورد على أجمل وردة في الشركة. - أفندم؟ إنت إزاي تتكلم معايا بالطريقة دي؟ ومين سمحلك تقعد على مكتبي؟ اتفضل قوم ماتعطلنيش. - بس بالراحة أنا جاي أصبح على الزميلة الجديدة وأعرفك بنفسي. - مش عايزة أتعرف ولا بحب أصبح على حد، عن إذنك بقى! - يا ساتر يا رب إيه دا كله؟ معقولة الجمال دا كله يطلع منه العنف دا؟! - اسمع يا أستاذ، واضح إنك فاضي وأنا مش فاضية لك، ممكن تبعد عن مكتبي عشان أشوف شغلي؟ - واضح إنك هتتعبيني معاكي. - واضح إنك ما بتفهمش عربي! أنا دلوقتي باتكلم بذوق، بعد كده هاروح أشتكيك للمدير! - لأ على إيه، أنا ماشي بس راجع تاني.
لم أجبه أو ألتفت إليه؛ فقد قابلت أمثاله كثيرا في الجامعة، ولكنهم سرعان ما يملون مني ويتركونني لحالي، فبرغم رغبتي الشديدة في حب يحتويني ويعوضني غيابك إلا أنني كنت مرعوبة من فكرة الهجر والغدر مرة أخرى؛ لذا فضلت أن أغلق على قلبي بألف مفتاح حتى لا يتعرض لآلام لا قبل له بها، وحتى لا يتمكن أحد من طعنه في الصميم، فضلت الحرمان من الحب على عذاب الغدر والهجر.
لم ييأس عصام مني، إنما كان يحاول بشتى الطرق تجاذب الحديث معي، ولم يفلح، فكنت أصده كل مرة، ولكني أتعجب من إصراره على التعرف بي، وقلت لنفسي ربما أراد أن يثبت للجميع أنه لا توجد الفتاة التي تصده، ورغم أن ملاحقته لي أرضت غروري الأنثوي إلا أني لم أغير موقفي تجاهه.
ذات يوم دخل عصام فوجدني أتحدث مع أحمد زميلي بالمكتب، ذاك الشاب الخجول الذي يكبرني بعامين وتحمر وجنته كلما تناقشنا في موضوعات العمل بمفردنا أو كلما تلاقت نظراتنا، كانت ملامحه بريئة وتحمل طيبة تريح القلب؛ فبشرته بيضاء، وشعره بني، وعيناه لوزيتان، لم أكن أتجنبه كالباقين؛ لأنه كان مهذبا ولم يحاول الحديث معي خارج نطاق العمل، ولم يتجاوز في الحديث أبدا؛ لذا كنت مندمجة معه في حديث بخصوص العمل، وعندما رآنا عصام قال بسخرية: ما الليدي نهلة أهي بتتكلم مع زمايلها بلطف! أمال معايا عاملة فيها الشاويش عطية ليه؟!
Página desconocida