هذا بحث من النحو، عكفت عليه سبع سنين وأقدمه إليك في صفحات، سبع سنين من أوسط أيام العمر وأحراها بالعمل، صدقت فيها الاعتكاف إلى النحو، وإلى ما يتصل بمباحثه، وأضعت له من حق الصديق والأهل والولد والنفس جميعا.
كان سبيل النحو موحشا شاقا، وكان الإيغال فيه ينقض قواي نقضا، ويزيدني من الناس بعدا، ومن التقلب في هذه الدنيا حرمانا، ولكن أملا كان يزجيني ويحدو بي في هذه السبيل الموحشة؛ أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية، وأن أرفع عن المتعلمين إصر هذا النحو، وأبدلهم منه أصولا سهلة يسيرة، تقربهم من العربية، وتهديهم إلى حظ من الفقه بأساليبها.
كانت بارقات الأمل - خادعة وصادقة - تدفعني في سبيلي، غير راحمة ولا وانية، فليكن ما أنفق من هذا العمر ذخرا في أعمار الدارسين من بعد، ولتكن شيخوخة هذا الشيخ فدى للعربية؛ أن تقرب من طالبيها، ويمهد السبيل لمتعلميها.
اتصلت بدراسة النحو في كل معاهده التي يدرس فيها بمصر، وكان اتصالا طويلا وثيقا؛ ورأيت عارضة واحدة، لا يكاد يختص بها معهد دون معهد، ولا تمتاز بها دراسة عن دراسة، هي التبرم بالنحو، والضجر بقواعده، وضيق الصدر بتحصيله؛ على أن ذلك من داء النحو قديما، ولأجله ألف «التسهيل» و«التوضيح» و«التقريب»، واصطنع النظم لحفظ ضوابطه، وتقييد شوارده.
والنحو مع هذا لا يعطيك عند المشكلة القول البات، والحكم الفاصل. قد يهدي في سهل القول، من رفع فاعل ونصب مفعول، فإذا عرض أسلوب جديد، أو موضع دقيق، لم يسعفك النحو بالقول الفصل، واختلاف الأقوال واضطراب الآراء وكثرة الجدل التي لا تنتهي إلى فيصل ولا حكم. كل ذلك قد أفسد النحو أو كاد، فلم يكن الميزان الصالح لتقدير الكلام، وتمييز صحيح القول من فاسده.
وإذا جئنا إلى مدارس الناشئين، كانت المشكلة في تعليمهم النحو أشد وأكد؛ فهو على ما تعلم من بعد تناوله، وصعوبة مباحثه، قد جعل المفتاح إلى تعلم العربية، وكتب على الناشئ أن يأخذ بنصيبه منه، منذ الخطوة الأولى في التعليم الابتدائي والثانوي. واختير له جملة من القواعد، قدر أنها تفي بما يحتاج إليه لإصلاح الكلام وتقويم اللسان، ثم كانت خصومة هادئة قاسية بين طبيعة التلميذ وبين هذا المنهاج والقائمين عليه. أما التلميذ فقد بذل الجهد وأعيا، ولم يبلغ من تعلم العربية أربا، وأما أصحاب المنهج فقد رأوا أن يزيدوا في منهجهم، ويكملوا للتلميذ حظه من القواعد، فلا سبيل له إلى العربية غير هذا النحو؛ فزادوا في هوامش كتبهم ما يكمل القواعد ويتمم الشروط - ثم تسللت هذه الزيادات إلى جوف الكتاب فضخم، وزاد المنهاج المفروض - ولكن طبيعة التلميذ الصادقة في إباء هذه القواعد، والتململ بحفظها، لم تخف شهادتها، ولم يستطع جحدها، فكانت ثورة على المنهاج وأصحابه، وخفف منه، وانتقص من مسائله، والداء لم يبرأ، والعوارض لم تتغير، وتكررت الشكوى ، وعادوا على المنهاج بالنقص، حتى كان المقرر قواعد من النحو مختلفة، كأنما هي نماذج يراد بها عرض نوع من مسائله.
قد كان في هذا، الشهادة الصريحة بفشل هذا النحو أن يكون السبيل إلى تعلم العربية، والمفتاح لبابها.
ولقد بذل في تهوين النحو جهود مجيدة، واصطنعت أصول التعليم اصطناعا بارعا، ليكون قريبا واضحا؛ على أنه لم يتجه أحد إلى القواعد نفسها، وإلى طريقة وضعها، فيسأل: ألا يمكن أن تكون تلك الصعوبة من ناحية وضع النحو وتدوين قواعده، وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث النحوي للغة العربية؟
هذا السؤال هو الذي بدا لي، وهو الذي شغلني جوابه طويلا.
ولقد تميز عندي نوعان من القواعد: نوع لا تجد في تعليمه عسرا، ولا في التزامه عناء، ولا ترى خلاف النحاة فيه كبيرا، وذلك كالعدد ورعاية أحكامه في مثل: قال رجلان والرجلان قالا، وقال رجال والرجال قالوا. فمع دقة الحكم في رعاية العدد، واختلافه تبعا لموضع الاسم والفعل من الجملة لا تجد العناء في تصوره، ولا المزلة في استعماله.
Página desconocida