99

Ihtiras

الاحتراس عن نار النبراس المجلد الأول

Géneros

ألا ترى أنا نقول: يستحيل في حكمة الحكيم العليم تعالى أن يفعل القبيح الذي نهى عنه بأبلغ نهي وذمه وذم فاعله؛ لأنه تعالى عالم بقبحه غني عنه، وحينئذ ففعلهم يكشف عن الجهل أو عليه السلام الحاجة كنا سيأتي توضيحه، وبهذا يظهر أن الكلام في الحسن والقبح عقلا وإن كان مصدر الأفعال إلا أنه يرجع إلى ما هو أعم من ذلك؛ لأنه كلام في الحقائق التي تدركها العقول كالصدق والكذب والعلم والجهل، والعجز والقدرة [47] والكمال والنقص والاحسان والاساءة، فمن قال أنه لا فرق بين التوحيد والشرك، وأ، الله تعالى لو عكس الشريعة وصح الكذب والجهل فالعجز والنقص، والإساءة وذم الصدق والعلم والقدرة والكمال والاحسان لكان حقا، وانعكست الحقائق المذكورة، واطرح العقل بالكلية، وأجاز على الله تعالى الجهل؛ لأنه أجاز عليه أن يمدح ما ليس فيه في نفسه أهلا للمدح، وإن يذم ما ليس في نفسه أهلا للذم، وهذا جهل وكذب، أما كونه جهلا فظاهرا، وأما كون كذبا فلأن مرجع المدح والذم إلى الخبر ولا يكون صدقا إلا إذا طابق الواقع فما لا يكون له واقع وخارج لا يتصور فيه المطابقة المذكورة بالجملة، فانتفاء الواقع يستلزم انتفاء المطابقة، ويلزم أيضا ترجيح وتخصيص من غير مرجح مخصص؛ لأن مدح أحد المتساويين من كل وجه وذم المساوي الآخر عين الترجيح بلا مرجح، والتخصيص بلا مخصص، لا يقال: أن المرجح والمخصص هو نفس الاختيار أي اختياره تعالى لمدح أحدهما، وذم الآخر؛ لأنا نقول: قد تقدم أن إرادته تعالى متعلقة لذاتها كما صرحوا به وهي قديمة كسائر صفات المعاني عندهم فلا يتصور أن يكون تعالى مختارا بمعنى أنه يشاء مدح هذا، وذم هذا، وإن شاء تمكين الأمر فذم ما مدحه، ومدح ما ذمه، ثم أنا لا نسلم أن الإرادة بمجردها تكفي في الترجيح ..... الحكمة، فلا بد من الداعي الحكيم الذي يترتب عليه تعلق الإرادة، ثم أنه سيلزم على هذا الذي أجازوه على الحكيم تعالى أنه لا يخلق بما لا يكون صفة مدح في نفس الأمر كالصدق والعلم، والعدل والاحسان وإلى غير ذلك من صفات الكمال، فلا تكون صفات كمال بالنظر إلى حقائقها، وما في نفس الأمر، هذا وقد تبين مما ذكرناه أن صفة النفس لا تثبت بدون التحسين والتقبيح العقليين، ثم إن قولنا: بأن الجهل مثلا صفة نفس لا يخلو إما أن يكون معلوما بالضرورة أو لا، إن كان الأول لزم مثله في سائر الحقائق -أي أنها تكون معلومة بالضرورة كالصدق والكذب، والعدل، والظلم، والإحسان والإساءة- وهذا عين ما تقر له العدلية في التحسين والتقبيح العقليين، وإن كان الثاني فلا طريق إلى العلم إلا بالملاحظة للأفعال حيث يجيز الجهال ولا يتمكن في أحكام أفعاله كالعالم، بل قد زعم الأشاعرة أن العبد لو كان محصلا لأفعاله لكان عالما بها، فجعلوا عدم العالمية دليلا على عدم الفالعية بمعنى تحصيل، وسيأتي الجواب عنه، وكذلك تجد الجاهل لا يتمكن من أن يفعل الفعل لأجل غرضا صحيح، وغاية كمالية لعدم علمه بالغايات والمبادئ المروية إليها، وقس على ذلك غيره، فظهر أن النقص في الذات أي في صفتها إذا كان معلوما بالاستدلال فإنما يعلم بملاحظة الأفعال، فمن لم يقل بالتحسين والتقبيح العقليين لم يمكنه إثبات النقص في الذات أصلا لا ضرورة، ولا استدلالا، وإذا لم يكن للعلم بالنقص لم يكن العلم في الكمال، وبهذا يتضح الفساد فيما ذكر المعترض في أول كتاب التوحيد كما سيأتي على أول قول المؤلف.

Página 110