قال الفقيه الإمام أبو محمد علي بن أحمد رحمة الله عليه ورضوانه الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وخص من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له ويسره لفهمه وسدده لاختياره وسهل عليه سبيله وخذل منهم من شاء فطبع على قلبه ووعر عليه طريق الحق ووفق قوما في سبيل ما ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى كما قال ﷿ ﴿والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم﴾ و﴿وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون﴾ دون أن يجبر مريد حق على إرادته أو يقسر قاصد باطل على قصده أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه أو ندبه إليه لكن كما قال ﷿ ﴿وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم﴾ وكما قال تعالى ﴿ثم دنا فتدلى﴾ وقال تعالى ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون﴾ لله وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم ﴿فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين﴾ ويقول يوسف ﴿قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني
1 / 3
كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾ وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والإنس بالدين القيم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
وبعد فإن الله ﷿ ركب في النفس الإنسانية قوة مختلفة فمنها عدل يزين لها الإنصاف ويحبب إليها موافقة الحق قال تعالى ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ وقال تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا﴾ ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد قال تعالى ﴿وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد﴾ وقال تعالى ﴿كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾ فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله في أخراه وهلاكه في معاده ومنها فهم يليح لها الحق من قريب وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهرا جليا ومنها جهل يطمس عليها الطرق ويساوي عندها بين السبل فتبقى النفس في حيرة تتردد وفي ريب تتلدد ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهورا وإقداما أو جبنا أو إحجاما أو إلفا وسوء اختيار قال تعالى ﴿أمن هو قانت آنآء الليل ساجدا وقآئما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب﴾ وقال تعالى ﴿وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون﴾ ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه ﷿ وإلى معرفة الأشياء ما هي عليه وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل فيها تكون معرفة الحق من الباطل قال تعالى ﴿وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات
ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين * وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين * حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير * ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد * كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب * وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار﴾
ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم
1 / 4
وعلى اعتقاد ذلك علما وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلا وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى ﴿إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ قال أبو محمد علي أراد بذلك العقل وأما المضغة المسماة قلبا فهي لكل أحد متذكر وغير متذكر ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له قال تعالى شاهدا لما قلنا ﴿أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ وقال بعض السلف الصالح ترى الرجل لبيبا داهيا فطنا ولا عقل له فالعاقل من أطاع الله ﷿ قال أبو محمد علي هذه كلمة جامعة كافية لأن طاعة الله ﷿ هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم لا إله إلا هو فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله ﷿ به أو حض عليه ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها من علو صوت أو عرض جاه أو نمو مال أو نيل لذة من طاعة أو معصية فليس ذلك عقلا بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار وقائد إلى الهلاك في دار الخلود وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار ضعيف العقل فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم فهو يشهد أن اختيار الشيء القليل في عدده الضعيف في
منفعته المشوب بالآلام والمكاره الفاني بسرعة على الكثير في عدده العظيم في منفعته الخالص
1 / 5
من الكدر والمضار الخالد أبدا حمق شديد وعدم للعقل البتة ولو أن أمرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ونواوير وأزهار وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ومال عريض إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة وفي أثنائها أهوال ومتالف ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال فيسكنها مائة عام فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه وفاسد العقل جدا ظاهر الحمق رديء الاختيار مذموما مدحورا ملوما وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه متحيرا في مصيره فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين وكل ما قلنا فلم نقله جزافا بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهدا بصحته وميزه العقل عالما بحقيقته والحمد لله رب العالمين وإن الله ﷿ ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة فمؤمن وكافر فريق في الجنة وفريق في السعير ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار وعبده المنتخب من جميع ولد آدم محمدا ﷺ الهاشمي المكي إلى جميع خلقه من الجن والإنس فنسخ بملته جميع الملل وختم به الرسل وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه واتخذ صفيا ونجيا وخليلا ورسولا فلا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار ولكنها دار ابتلاء واختبار
1 / 6
ومجاز إلى دار الخلود وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به ﷿ وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت غرور وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس خطأ إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله ﷺ وإحياء سنن الحق وإماتة طوالع الجور وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل وأصوات مستحسنة متقضية بهبوب الرياح ومشام مستطرفة منحلة بعيد ساعات ومذاوق مستعذبة مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة وملابس معجبة متبدلة في أيسر زمان تبدلا موحشا باطلا وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين فقد أخبر رسول الله ﷺ أن من هدى الله به رجلا واحدا فهو خير له من حمر النعم وأخبر ﵇ أن من سن سنة خير في الإسلام كان له مثل أجر كل من عمل بها لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئا وغبط من تعلم الحكمة وعلمها فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة فمن أوكدها وأحسنها مغبة بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا ﷿ على لسان رسوله ﷺ وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه والعبارات
1 / 7
الواردة فيه فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس فإثم من قلدهم إثمين إثم التقليد وإثم الخطأ ونقصت أجور من
اتبعهم مجتهدا من كفلين إلى كفل واحد ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان
فقد عرضه لخير كثير وامتن عليه بتزايد الأجر وهو في التراب رميم وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وبينا كل ذلك بيانا سهلا لا إشكال فيه ورجونا بذلك الأجر من الله ﷿ فكان ذلك الكتاب أصلا لمعرفة علامات الحق من الباطل وكتبنا أيضا كتابنا المرسوم بالفصل فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب ولم ندع بتوفيق الله ﷿ لنا للشك في شيء من ذلك مساغا والحمد لله كثيرا ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله ﷿ منا فيما كلفناه من العبادات والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا ﷿ لنا موعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى مستقصى محذوف الفضول محكم الفصول راجين أن ينفعنا الله ﷿ به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه فيضرب لنا في ذلك بقسط ويتفضل علينا منه بحظ فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شيء لا إله إلا هو
1 / 8
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق إنه لما صح أن العالم مخلوق وأن له خالقا لم يزل ﷿ وصح أنه ابتعث رسوله محمدا ﷺ إلى جميع الناس ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لأوليائه ﷿ وليكب من عصاه في النار الحامية وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه ﷺ شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك
الشرائع يوصل إلى الفوز وينجي من الهلاك وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله ﷺ بتبليغه إلينا وسماه قرآنا وفي الكلام الذي أنطق به رسوله ﷺ وسماه وحيا غير قرآن وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه ﵇ لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود
ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا ﷿ فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله ﷿ والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾ قال أبو محمد فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الأحكام والعبادات التي شرعها الله ﷿ لا يشذ عنها شيء من ذلك فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله ﵇ وطاعة أولي الأمر ومن هم أولو الأمر
1 / 9
وبيان التنازع الواقع منا وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله ﵇ وهذا هو جماع الديانة كلها ووجدناه قد قال تعالى ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم﴾ فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله فصح بهذه الآية يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله ﷿ ثم على لسان رسول الله ﷺ فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا ﷿ ونهيه وإباحته لا مبلغ إلينا شيئا عن الله تعالى أحد غيره وهو
﵇ لا يقول شيئا من عند نفسه لكن عن ربه تعالى ثم على ألسنة أولي الأمر منا فهم الذين يبلغون إلينا جيلا بعد جيل ما أتى به رسول الله ﷺ عن الله تعالى وليس لهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئا أصلا لكن عن النبي ﵇ هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل وليس من
الدين إذ ما لم يكن من عند الله تعالى فليس من دين الله أصلا وما لم يبينه رسول الله ﷺ فليس من الدين أصلا وما لم يبلغه إلينا أولو الأمر منا عن رسول الله ﷺ فليس من الدين أصلا فبينا بحول الله تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب بأن ترك ما هو من الدين مخطئا غير عامد للمعصية أو عامدا لها أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين إما ترك وإما زيادة ولخصنا الحق تلخيصا لا يشكل على نصح نفسه وقصد الله ﷿ بنيته وما توفيقنا إلا بالله ﷿ وجعلنا كتابنا هذا أبوابا لنقرب على من أراد النظر فيه ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه ورجاء ثواب الله ﷿ في ذلك وبالله تعالى نتأيد
1 / 10
باب ترتيب الأبواب وهو الباب الثاني إذ الباب الأول في صدر هذا الكتاب وذكر الغرض فيه وهو الذي تم قبل هذا الابتداء الباب الثاني هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب الباب الثالث في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الأشياء ويتخاطب بها الناس الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر الباب السادس هل الأشياء في العقل على الحظر أو الإباحة أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها ﷿ الباب السابع في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا الباب الثامن في معنى البيان الباب التاسع في تأخير البيان الباب العاشر في القول بموجب القرآن
الباب الحادي عشر في الأخبار التي هي السنن وفي بعض فصول هذا الباب سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة الباب الثاني عشر في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والأخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور أو الندب أو التراخي الباب الثالث عشر في حملها على العموم أو الخصوص الباب الرابع عشر في أقل الجمع الوارد فيها الباب الخامس عشر في الاستثناء منها الباب السادس عشر في الكتابة بالضمير
1 / 11
الباب السابع عشر في الكتابة بالإشارة الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله ﷺ وفي الشيء يراه أو يبلغه فيقره صامتا عن الأمر به أو النهي عنه الباب الموفي عشرين في النسخ الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والمحكم والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام الباب الثاني والعشرون في الإجماع الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته وهو باب من الدليل الإجماعي الباب الرابع والعشرون في أقل ما قيل وهو أيضا نوع من أنواع الدليل الإجماعي الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف والنهي عنه الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها خطأ الباب السابع والعشرون في الشذوذ ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها الباب الثامن والعشرون في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة ﵃ الباب التاسع والعشرون في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس
الباب الموفي ثلاثين في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر ووقت لزوم الشرائع للإنسان الباب الحادي والثلاثون في صفة طلب الفقه وصفة المفتي وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه
1 / 12
الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في الأعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود والعمد المقصود بالفعل والنية جميعا وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء قبل نبينا ﷺ أتلزمنا أم لا الباب الرابع والثلاثون في الاحتياط وقطع الذرائع الباب الخامس والثلاثون في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي الباب السادس والثلاثون في إبطال التقليد الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس الباب التاسع والثلاثون في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الأسباب والأغراض والمعاني والعلامات والأمارات الباب الموفي أربعين في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله ﷿ فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطىء عند الله ﷿ وإن خالفناه في إثبات حجج العقول
قال أبو محمد قال قوم لا يعلم شيء إلا بالإلهام وقال آخرون لايعلم شيء إلا بقول الإمام وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاما معدوم المكان متلف العين ضالة من الضوال وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالخبر وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالتقليد واحتجوا في إبطال
1 / 13
حجة العقل بأن قالوا قد يرى الإنسان يعتقد بشيء ويجادل عنه ولا يشك في أنه حق ثم يلوح له غير ذلك فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها قال أبو محمد هذا تمويه فاسد ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده ويناضل عنه لأننا لم نقل إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه ولا قلنا إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول لكن قلنا إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الإحكام في كتاب التقريب وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا على مذهب فاسد وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح وقد نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الإيضاح فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلاليه فاسدا إما الأول وإما الثاني وقد يكونان معا فاسدين فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح لا بد من أحد هذه الوجوه ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة لأن الشيء لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد وقد يكون أقساما
كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر فمال بهوى أو تهور بشهوة أو أحجم لفرط جبنه أو لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها وأكثر ما يقع ذلك
1 / 14
فيما يأخذ من مقدمات بعيدة فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا كثير الشعب فيكل فيها الذهن الكليل ويدخل مع طول الأمر وكثرة العمل ودقته السآمة فيتولد فيها الشك والخبال والسهو كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشيء وقف على اليقين بلا شك هذا شيء يوجد حسا كما ترى وقد يدخل أيضا على الحواس فيرى المرء بعينه شخصا فربما ظنه زيدا وكابر عليه حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو وهكذا يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق وقد يعرض ذلك الشيء يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده ثم يجده بعد ذلك فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة فكذلك يعرض في الاستدلال وليس شيء من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس ولولاه لم نعلم أصلا كما أن حواس المجنون المطبق والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب وأنه مبطل وقاح أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه فهذا معذور وإنما نكلم الأنفس لسنا نقصد بكلامنا الألسنة ولا علينا قصر الألسنة بالحجة إلى الإذعان بالحق وإنما علينا قسر الأنفس إلى تيقن معرفته فقط فهذا الذي ظنوه من
رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت إنما هو خطأ صريح فمن هنا دخلت عليهم الشبهة وإنما
1 / 15
بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا محققا فهو حجة العقل وما كان
منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل بل العقل يبطلها فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين وقد أحكمنا هذا غاية الإحكام والحمد لله رب العالمين في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل ترجمته باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة وقد سألوا أيضا فقالوا بأي شيء عرفتم صحة حجة العقل أبحجة عقل أم بغير ذلك فإن قلتم عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه قال أبو محمد وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها والجواب على ذلك وبالله تعالى التوفيق أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان ولم يكن بين أول أوقات فهمنا وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر وأن الشيء لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان فلا وقت للاستدلال فيه ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك إلا أنه فعل الله ﷿ في النفوس فقط ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل ثم نقول له إن كنت مسلما بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل وكتابنا الموسوم بالتقريب وتقصينا هذا الشك وبينا خطأه بعون الله تعالى وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء
1 / 16
قال أبو محمد ويقال لمن قال بإلهام ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من
ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما يدركه غيرهم بأوله عقله لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم
إلهاما أو إدراكا فصح بلا شك أنهم كذبة وأن الذي بهم وسواس وأيضا فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل ولو أعطي كل امرىء بدعواه المعراة لما ثبت حق ولا بطل باطل ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم ولا صحت ديانة أحد أبدا لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول ألهمت أن دم فلان حلال وأن ماله مباح لي أخذه وأن زوجه مباح لي وطؤها وهذا لا ينفك منه وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقا وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضا فلا بد من حاكم يميز الحق منها من الباطل وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله وقد بينا ذلك في كتاب التقريب وقال أبو محمد ويقال لمن قال بالإمام بأي شيء عرفت صحة قول الإمام أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام أم بقوله مجردا فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به ولا سبيل له إليه وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاما وإن قالوا بالإلهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الإلهام وإن قالوا بقوله مجردا سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل ولا سبيل إلى وجه خامس أصلا قال أبو محمد ويقال لمن قال بالتقليد ما الفرق بينك وبين من قلد غير
1 / 17
الذي قلدت أنت بل كفر من قلدته أنت أو جهله فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد وقد أفردنا في إبطال التقليد بابا ضخما قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق قال أبو محمد علي ويقال لمن قال لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر أخبرنا الخبر كله حق أم كله باطل أم منه حق وباطل
فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شيء إلا به وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم وإن قال حق كله عورض بأخبار مبطلة لمذهبه فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشيء وضده في وقت واحد وذلك ما لا سبيل إليه وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى الباطل فهو باطل ضرورة فلم يبق إلا أن من الخبر
حقا وباطلا فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل قال أبو محمد علي ثم يقال لجميعهم بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه وصحة التوحيد والنبوة ودينك الذي أنت عليه أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل وبأي شيء عرفت فضل من قلدت أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهما إليه ولا مقلدا له برهة من دهرك وبأي شيء عرفت صحة ما بلغك من الأخبار بعد أن لم تكن بلغتك وهل لك من عقل أم لا عقل لك فإن قال عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق فإن قال لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك
1 / 18
مذهبه الفاسد ضرورة قال أبو محمد واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى ﴿فلذلك فدع وستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل آمنت بمآ أنزل لله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم لله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم لله يجمع بيننا وإليه لمصير * ولذين يحآجون في لله من بعد ما ستجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد﴾ قال أبو محمد وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم وهو قوله تعالى فيمن يحاج بعد ظهور الحق وهذه صفة المعاند للحق الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها وهذا مذموم عند كل ذي عقل ومنها قوله تعالى ﴿وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون﴾
قال أبو محمد وإنما ذم تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك ومنها قوله تعالى ﴿ويعلم لذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص﴾ ومنها قوله تعالى ﴿فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن تبعن وقل للذين أوتوا لكتاب ولأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد هتدوا وإن تولوا فإنما عليك لبلاغ ولله بصير بلعباد﴾ قال أبو محمد قال تعالى ﴿يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا﴾ فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به فعلمنا يقينا أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم ووجه الجدال المأمور به المحمود لأنا قد وجدناه تعالى قد قال ﴿ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى لله وعمل صالحا وقال إنني من لمسلمين﴾ ووجدناه تعالى قد قال ﴿دع إلى سبيل ربك بلحكمة ولموعظة لحسنة وجادلهم بلتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بلمهتدين﴾ فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال
1 / 19
كلها من الرفق والبيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة وقال تعالى ﴿قل فأتوا بكتاب من عند لله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين﴾ ولم يأمر الله ﷿ رسوله ﷺ أن يقول هذا شكا في صدق ما يدعو إليه ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الأهدى واتباعه الأمر الأصوب وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول
خصمه ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله ﷿ فليس صادقا وإنما هو متبع لهواه وقال تعالى ﴿قالوا تخذ لله ولدا سبحانه هو لغني له ما في لسماوات وما في لأرض إن عندكم من سلطان بهذآ أتقولون على لله ما لا تعلمون * قل إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون﴾ قال أبو محمد ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله ﷿ وأنه مفتر على الله تعالى وكاذب عليه ﷿ بنص الآية لا تأويل ولا تبديل وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الإنصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا ﷿ بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة قبل اعتقاد مدلولاتها حتى وفقنا ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن
1 / 20
فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الأحاديث والآي في ظاهر اللفظ ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا ولعلها ثابتة في نقلها فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا والحمد لله رب العالمين وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى ﴿ولا تجادلوا أهل لكتاب إلا بلتي هي أحسن إلا لذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بلذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون﴾ فأمر ﷿
كما ترى بإيجاب المناظرة في رفق وبالإنصاف في الجدال وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشيء من ذلك فيعارض حينئذ بما ينبغي وقال تعالى ﴿يمعشر لجن ولإنس إن ستطعتم أن تنفذوا من أقطار لسماوات ولأرض فنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان﴾ والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى ﴿وذر الذين تخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم لحياة لدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون لله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولئك لذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون﴾ فذكر ﷿ تقدير إبراهيم ﵇ قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله وأن ذلك لدليل على خلقها وبرهان على حدوثها فقال ﷿ ﴿وتلك حجتنآ آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم﴾ وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم ﵇ وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة فمرة للملك ومرة لقومه والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون قال الله ﷿ ﴿إن أولى لناس بإبراهيم للذين تبعوه وهذا لنبي ولذين آمنوا ولله ولي لمؤمنين﴾ فنحن المتبعون لإبراهيم ﵇ في المحاجة والمناظرة فنحن أولى الناس به وسائر الناس مأمورون بذلك قال الله تعالى ﴿قل صدق لله فتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين﴾ ومن ملته المناظرة كما ذكرنا فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاص لله ﷿ ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما قال الله ﷿ وقد
1 / 21
أثنى على أصحاب الكهف ﴿نحن نقص عليك نبأهم بلحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾ فأثنى الله ﷿ عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لم يقم قومهم على قولهم حجة بينة وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى
قولا بلا دليل فهو مفتر على الله ﷿ الكذب
وقال تعالى ﴿ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من لمجرمين منتقمون﴾ فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى ومن كلام نبيه ﷺ فأعرض عنه وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى ﴿لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون﴾ وقال تعالى ﴿بل تبع لذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدي من أضل لله وما لهم من ناصرين﴾ فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولا وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار وقال تعالى ﴿فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين﴾ أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم فقال تعالى ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين﴾ فصح بكل ما ذكرنا الوقوف عما لا نعلم والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها وقال تعالى ﴿ومن أظلم ممن فترى على لله كذبا أو كذب بلحق لما جآءه أليس في جهنم مثوى للكافرين﴾ قال أبو محمد في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة وألا يأتي ما قامت عليه الحجة فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان أو قلد إنسانا مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطىء ويصيب وقال تعالى ﴿وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم
1 / 22