آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٦)
إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية
(٦٩١ - ٧٥١)
تحقيق
عبد الرحمن بن حسن بن قائد
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم
دار ابن حزم
المقدمة / 1
مقدمة التحقيق
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، اللهم أهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك.
أما بعدُ؛ فإن تحريرَ مسائل العلم وتنقيحَها من المطالب الكبار التي لا ينهض بها إلا من رسخت في العلم قدمُه، وطالت له مصاحبتُه، مستبطنًا لدخائله، مستقرئًا لدقائقه، مستخرجًا لمخبَّآته، غائصًا على أسراره.
ولا يُسابِق فيها إلا ضليعٌ، طابَ بالدليلِ مشربُه، وزكا بالاتباع غَرسه، وكان له من رُوحه المؤمنة مَعِينٌ لا يَنْضب، ومن نفسه التوَّاقة رِفْدٌ لا ينتهي.
نعم، ولا تَهْتزّ لها إلا نفوسٌ عَشِقَت العلم، وأنِفَتْ من مَعرَّة الجهل، وسئمت تِيْهَ الحَيْرهَ، وغصَّت بمرارة الخطأ، وتَسامَتْ عن هَوان التبعية لغير الحق، ولم تَرْضَ بدلًا ببَرْدِ اليقين، وعِزِّ الثقة، ولذَّة الإصابة، وراحةِ التوفيق، وطمأنينة النَّجاح.
وهذه الرسالة التي بين يديك ثمرةٌ يانعةٌ من ثمار التحرير والتنقيح، أنضجَها صدقُ الطَّلب وصحةُ العزم، وروَّاها طولُ التأمُّل وحُسْنُ التأتِّي، ورَعَاها لزومُ الجادَّةِ وسلامةُ المنهج.
وهي لأحد أولئك الأفراد الذين ازدانت بهم سماءُ العلم، وأشرقت بضيائهم شمسُ التحقيق، وكان له في هذا الباب مقامُ صِدْقٍ
المقدمة / 3
مشهود: الإِمام العلم ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-.
إذَا ذُكِر الأحبارُ في كل بلدةٍ ... فهم أنجمٌ فيها وأنت هلالُها
وإنك لواجدٌ فيها من دقيقِ البحث، وعظيمِ التجرُّد، ما يملأ قلبك رضًا وطمأنينة، وما عسى ألا تقف عليه في موضعٍ آخر إن شاء الله.
فدُونَكها .. موردًا عذبًا لم تكدِّرْهُ العصبيَّة، ولا شابَتْه حميَّةٌ لغير ما اقضتهُ قواعدُ الشريعة، وهَدَتْ إليه نصوصُ الوحي.
فَرِدْهُ، وانظر لنفسك، وتَبَصَّرْ، لتستوثق لعلمك، وسافر بهمَّتك في طلب الحق، وانْشُدْهُ كما تنشدُ عزيزًا فقدتَه، فإذا عرفته فالْزمْهُ، فعمَّا قليلٍ تَحْمَدُ صُنعك.
المقدمة / 4
دراسة الرسالة، والتعريف بها:
* اسمها.
* نسبتها إلى المصنف:
* تاريخ تصنيفها:
* موضوعها ومنهج المصنف فيها:
* الثناء عليها:
* طبعاتها.
* الأصل الخطي المعتمَد عليه:
* عملي في إخراجها:
المقدمة / 5
اسم الرسالة
ليس في الأصل الخطيِّ الذي اعتمدتُه إشارةٌ إلى تسمية الرسالة، مِن كلام المصنف، لا في صدرها ولا في خاتمتها ولا في أثنائها.
وإن كان الظاهر أن الاسم الذي أثبته الناسخ على ظهرها: "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان"، هو الاسم الذي ارتضاهُ المصنف لها، ولعله كتبه على ظهر نسخته؛ ويدلُّ عليه أنه ذكرها به في كتابه الآخر "مدارج السالكين" (٣/ ٣٠٨) (^١).
وقد عرفها العلماء بهذا الاسم كما سيأتي في تثبيت نسبتها إلى المصنف.
ورفعًا للالتباس، ودفعًا للوهم، وميلًا إلى الاختصار؛ دعاها بعضُ أهل العلم: "الإغاثة الصغرى" (^٢)، تفريقًا بينها وبين "الإغاثة الكبرى": "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان".
ويُلاحَظ أن في العنوان الذي اختاره المصنف لهذه الرسالة إيماءً إلى الغرض الذي حمله على تأليفها، وهو إغاثة الملهوف الذي بدرت منه كلمةُ الطلاق حالَ غضبه، غيرَ قاصدٍ فِراقَ زوجه = بما يُسَكِّن
_________
(^١) في مطبوعة "المدارج" و"شذرات الذهب": "إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان". بإسقاط لفظة: "حكم".
(^٢) انظر: "ابن قيم الجوزية" للشيخ بكر أبو زيد (٢٢٠).
المقدمة / 7
فؤاده، ويَرْبِطُ على قلبه، ويحميه عن التعرُّض لسخط الله، بالتردِّي في التحليل المحرَّم، فيما إذا قيل بوقوع طلاقه (^١).
_________
(^١) انظر لنحو هذا في التعليل لقول الشيخين في مسألة الطلاق الثلاث: "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم"، (١١/ ٣٩) عن "تسمية المفتين" للشيخ الدكتور سليمان العمير (٤١ - ٤٢).
وليس المراد أن هذه الرغبة كانت هي -وحدها- الدافع لاختيار: هذه الأقوال، والانتصار لها. فإن دلائل الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار- التي هي موضع نظر الشيخين، ومحطُّ رحالهما، وعليها يقوم شامخ بنيان فقههما- هي التي قادتهما إلى القول بهذه المسائل وغيرها.
وإنما كانت تلك الرغبة -مع واجب البلاغ- هي الباعث على الانتصاب للتأليف فيها، والإفتاء بها، والصبر معها على عظيم الأذى، وشديد البلاء؛ احتسابًا لثواب الله، وثقةً بموعوده، وسيرًا على نهج الأنبياء في هداية الخلق، ومحبة الخير لهم، والشفقة عليهم من التَخوُّضِ في موارد الهلكة.
المقدمة / 8
نسبة الرسالة إلى المصنف
هذه الرسالة ثابتةُ النِّسبة إلى ابن القيم -رحمه الله تعالى-، دونما شكٍّ أو ريب.
ودلائلُ ذلك متوافرة، يأخذ بعضها برقاب بعض، فمن ذلك:
١ - ذِكْرُ ابن القيم لها في بعض كتبه؛ كما في "مدارج السالكين" (٣/ ٣٠٨).
٢ - نقلُ العلماء عنها؛ فقد نقل منها -مصرِّحًا باسمها العَلَميِّ، ونسبتها إلى ابن القيم- الشيخ مصطفى الرحيباني (ت: ١٢٤٣) في كتابه "مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى" (٥/ ٣٢٢ - ٣٢٣) وعنه نقل ابن عابدين (ت: ١٢٥٢) في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (٣/ ٢٥٧).
٣ - تسميةُ بعض مترجمي ابن القيم لها ضمن سياق تصانيفه؛ كما صنع ابن العماد في "شذرات الذهب" (٨/ ٢٩٠).
٢ - ثبوت نسبتها إلى ابن القيم على ظهر النسخة الخطية المكتوبة سنة ٨٨٥، وهي بخط أحد المشتغلين بالعلم.
٥ - توافقُ كثيرٍ من مباحثها، واختياراتها، مع ما هو موجود في مصنفات ابن القيم الأخرى.
٦ - أسلوبُ ابن القيم الذي لا يخفى على من عانى قراءة مصنفاته ظاهرٌ الظهورَ كلَّه في هذه الرسالة.
المقدمة / 9
تاريخ تصنيف الرسالة
ليس بين يديَّ ما أستطيع به أن أجزم أو أقرِّب العلمَ بتاريخ كتابة المصنف لرسالته هذه.
إلا أنه أشار إليها في كتابه "المدارج"، كما أشار فيه إلى غير ما كتابٍ من كتبه؛ فهي متقدِّمةٌ عليه في الغالب.
وهذا وإن كان مفيدًا، إلا أنه -كما ترى- ليس بذي بالٍ في تحديد تاريخ التصنيف.
فإذا نظرنا إلى طريقة أين القيم في معالجة موضوع الرسالة، وما حشده فيها من أنواع الدلائل، وقرَّره خلالها من لطائف الحُجج، وروائع الاستنباط، وقارنَّاها بالمواضع التي تعرَّض فيها لهذه المسألة في كتبه = فقد يتراءى لنا تأخُّر هذه الرسالة عنها، لظهور ابن القيم في رسالته هذه وقد استولى على الأمد، وأوفى على الغاية، واستقرَّت في يده أدواتُ المجتهد، وقويت ثقتُه باختياراته.
وهذه المحجَّةُ في استكناه التاريخ، وإن كانت رائقة في مرأى العين، فهي مظنةُ الزلل؛ فلا تملأ منها يديك.
المقدمة / 10
موضوع الرسالة، ومنهج المصنف فيها
أما موضوعُها، فهو -في الأصل-: حكمُ طلاق الغضبان، هل يقع أم لا؟. واختار المصنف عدم الوقوع بشرطه الآتي.
وقد أشار -وهو بسبيل الاحتجاج لقوله في هذه الرسالة- إلى مسائل أخرى في الطلاق وغيره، مستشهدًا، ومفرِّقًا، ومقارنًا.
ولما كان الإجمالُ والإيهامُ من مواردِ الغلط، ومظانِّ الالتباس والوهم، وكان التفصيل والتبيينُ من معالمِ طريقة المصنف في تناول مسائل العلم في عامة تصانيفه = حرص - في مواطن مختلفة من هذه الرسالة - على تحرير موضع النِّزاع، وتحديدِ مراده بالغضبان الذي يختار عدم وقوع طلاقه، وأبدأ في ذلك وأعاد.
أما تحريرهُ لموضع النِّزاع؛ ففي تفصيله لأقسام الغضب، وما يلزم على كل قسمٍ من نفوذ الطلاق والعقود، وبيانِه أن القسمين الأولَيْنِ مما لا يتوجَّه فيه الخلاف، وإنما الشأن في القسم الثالث (^١).
وأما تحديدُه للغضبان الذي يذهب إلى عدم وقوع طلاقه، فقد قام على أمرين:
الأول: النظر إلى قصدِ القلب للطلاق، وعدمِه.
قال: "لا كلام في الغضبانِ العالمِ بما يقول، القاصدِ المختارِ لحكمه، دفعًا لمكروه البقاء مع الزوجة، وإنما الكلام في الذي اشتد
_________
(^١) انظر: (ص: ٢٠ - ٢١).
المقدمة / 11
غضبه حتى ألجأه الشيطان إلى التكلُّم بما لم يكن مختارًا للتكلُّم به ... " (^١).
ومثَّل للأول: بمن زنت امرأته، فغضب، فطلقها؛ لأنه لا يرى المُقام مع زانية، فلم يقصد بالطلاق إطفاء نار الغضب، بل التخلص من المقام معها، فهذا يقع طلاقه (^٢).
وقال: "إن لو لم يقع هذا الطلاق لم يقع أكثرُ الطلاق؛ فإنه غالبًا لا يقع مع الرضا" (^٣).
ومثَّل للثاني: بمن خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخُلُق، ولكن حمله الغضب على أن شفى نفسه بالتكلُّم بالطلاق، كسرًا لها وإطفاءً لنار غضبه (^٤).
فهذا الذي لا يقع طلاقه.
فكلامه إنما هو في "الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة" (^٥).
وهو يعتبر هذا الفرق بين الصورتين هو حرف المسألة ونُكْتتها.
الثاني: الوقوفُ على مرتبة الغضب ودرجته.
_________
(^١) انظر: (ص: ٣٠).
(^٢) انظر: (ص: ٣٢).
(^٣) انظر: (ص: ٤٥).
(^٤) انظر: (ص: ٣٣).
(^٥) انظر: (ص: ٣٢).
المقدمة / 12
فالغضب الذي يقصده هو ما منع الغضبان كمالَ التصوُّر والقصد، فليس هو غائب العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية، ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرًا (^١).
فأما من حصلت له مبادئ الغضب وأوائله، بحيث لا يتغير عليه عقله وذهنه، ويعلم ما يقول ويقصده؛ فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه.
وكذا من بلغ به الغضب نهايته، بحيث ينغلق عليه باب الإرادة والعلم، فهذا لا يتوجَّه خلافٌ في عدم وقوع طلاقه (^٢).
فتبيَّن بهذا أن المُعَوَّلَ عليه عند ابن القيم لعدم وقوع طلاق الغضبان ليس هو الغضب، وحده، بل لا بُدَّ صلى اجتماع أمرين: غضبٍ يُغمِي عن كمال التصوُّر، وعدمِ قصدٍ من القلب لإيقاع الطلاق.
والمرءُ يُدَيَّنُ في ذلك (^٣).
فالغضبان الذي لا يقع طلاقه عنده هو من توفر فيه الأمران، وما عداه فواقعٌ طلاقُه.
ومع هذا التفصيل والتحرير، أَجْمَلَ بعض الفقهاء مذهبَ ابن القيم في المسألة، وأطلق خلافه فيها.
قال الشيخ مرعي الكرمي في "غاية المنتهى":
_________
(^١) انظر: (ص: ٤٦).
(^٢) انظر: (ص: ٢٠ - ٢١).
(^٣) انظر: (ص: ٤٢).
المقدمة / 13
"ويقع ممن أفاق من نحو جنونٍ وإغماءٍ فذكر أنه طلَّق، وممن غضب، خلافًا لابن القيم".
فتعقبه شارحه الرحيباني بما ينفي إطلاق ابن القيم للقول بعدم وقوع طلاق الغضبان (^١).
وممن أجمل مذهب ابن القيم كذلك -دون أن يسميه-: الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (٩/ ٣٠١)، ونسبه إلى بعض متأخري الحنابلة. ومن قبله الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (١/ ٢٧٨).
* ومن المعالم البارزة في منهج ابن القيم في تحرير مباحث رسالته هذه:
١ - عنايتُه البالغة بتحرير موضع الخلاف، وتحديدُ مقصودِه وقولِه بوضوح. كما تقدم شرحه.
٢ - احتفالُه بنصوص الوحي، تفقُّهًا، وتدبُّرًا، واستنباطًا.
فَنزَعَ منها -نَزْعَ عبقريٍّ- دلائلَ وشواهد، لم أرها عند غيره، لما ذهب إليه في مسألة طلاق الغضبان.
٣ - سَعَةُ دائرة اطلاعه على مذاهب العلماء وأقوالهم ومصنفاتهم، فضمَّن رسالته منع أقوال المتقدمين والمتأخرين من مختلف علماء المذاهب شيئًا كثيرًا، نصًّا وإشارةً، وقفتُ على بعضها بعد لأيٍ،
_________
(^١) انظر: "مطالب أولي: النهى في شرح غاية المنتهى" (٥/ ٣٢٢ - ٣٢٣).
المقدمة / 14
وعجزت عن بعض.
٤ - تمثُّلُه المدهش لعلوم الشريعة، أصولها وفروعها، فروقها ونظائرها، قواعدها وضوابطها، أسوارها ومقاصدها، واستثماره لذلك كله في تحقيق حكم الشارع في المسألة التي عقد لها هذه الرسالة.
٥ - تجرُّده، وإنصافه، وحميَّته للحق، وسيره خلف ضياء الدليل المعصوم، ونبذه التعصُّب لآراء الرجال.
٦ - تنوُّعُ أدلته، واستكثارُه من الحُجَج والبراهين.
٧ - يُسرُ عبارته، وسهولةُ لفظه، وتقيُّلُه أسلوب الكتاب والسنة.
المقدمة / 15
الثناءُ عليها
قال العلامةُ جمالُ الدين القاسمي عنها: "وهو كتاب نفيسٌ، يفيد الأمة فائدةً عظيمةً في المسألة المذكورة ...، وكان الوالدُ ﵀ يطالعُه دائمًا ويبتهجُ به" (^١).
وقال مرةً أخرى: "وكان الجدُّ والوالد -قدَّس الله روحهما- يطالعانها كثيرًا، بل إني شُغِفْتُ بها مِنْ صِغَري؛ لكثرة ما أرى الوالد ينظر فيها! " (^٢).
وكما كان والدُ القاسميِّ وجدُّه حَفيَّيْنِ بها كان هو عظيمَ الإقبال عليها، ولئن كانا حريصَيْن على مطالعتها فلقد كان هو توَّاقًا إلى تعميم النفع بها (^٣)، ولذا لم يفتأَ من ذِكرها والإشادةِ بها في مجالسه ودروسه ورسائله إلى إخوانه.
بعث إلى علامة العراق لعصره محمود شكري الآلوسي (ت: ١٣٤٢) يحدِّثُه عنها، قائلًا. "إنها من النوادر المضنون بها" (^٤).
_________
(^١) انظر: "الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الآلوسي" (٧٥).
(^٢) المصدر السابق (٩٨).
(^٣) على عادته الجميلة في الحرص على نشر كتب المحققين من أهل العلم، وله في هذا الباب فلسفةٌ ونظرةٌ راشدة، ومن عجيب كلامه: "وجليٌّ أن طبع كتاب خيرٌ مِن ألفِ داعٍ يتفرقون في الأقطار؛ لأنَّ الكتاب يأخذه الموافقُ والمخالف، والداعي قد يجد من العوائق ما لا يظفر بأمنيته ... ". المصدر السابق (٥٦).
(^٤) المصدر السابق (٩٨).
المقدمة / 16
وبلغ من شغفه بإذاعتها ونشرها أنه حين رأى الإعلان عن طباعتها على ظهر جزءٍ من مجلة "المنار" التي كانت تصدر لذلك العهد، لم يشعر -لِفرحه وابتهاجه- إلا وهو يكتبُ إلى صديقه العلامة الآلوسي يبشِّرُه، ويقول: " .... فالحمدُ لله على ما أنعم وتكرَّم، ونسأله سبحانه أن يوفِّق إخواننا لنشر أمثاله، وتعميم النفع بأشكاله" (^١).
وحين وقعت في يديه ملازمها الأولى كتب إلى الشيخ محمَّد نصيف (ت: ١٣٩١) يُسابِق قلمُه فرحَه: "تناولتُ أمس أوراق الملزمة الأولى من "إغاثة اللهفان"، وقد سُرِرْنا بالبشارة بطبعها؛ لِما أنها أنجحُ ما أُلِّف للإصلاح في الزوجية والعائلات، وتحقيق أيمان الطلاقات؛ فإن سعادة الأمة في زيجتها هي معرفة الحالة التي تنحَلُّ بها العصمة قطعًا بلا خلاف، والحالةِ التي لا أثر لها في حَلِّ عصمة الزوجيّة ...، وهذا الكتابُ نرجو منه تعالى أن ينبِّه المتفقِّهة والمُفتين على فيصل الحق في هذا الباب ... " (^٢).
وقد حدَّث أخاه الآلوسي بالعناء الذي لقيه وهو بسبيل إعدادها للنشر، وتعزَّى بأن شغَفه بسرعة تنوير الأفكار، وتنبُّهِها إلى مراشدها، ممّا يُخفِّفُ تلك الصعوبات (^٣).
_________
(^١) المصدر السابق (١٢٥).
(^٢) "جمال الدين القاسمي" لابنه ظافر (٦٠٨). وستأتي الإشارةُ إلى دور نصيف في طبع الرسالة.
(^٣) "الرسائل" (٧٦).
المقدمة / 17
طبعات الرسالة
طُبِعت هذه الرسالة أولَ ما طُبِعت بعناية الشيخ العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى (ت: ١٣٣٢)، بمطبعة المنار بمصر، سنة ١٣٢٧ (^١)، عن الأصل الخطي الذي كان في مكتبته الخاصة (^٢)، وهو الذي اعتمدتُ على مصوَّرته في هذه النشرة.
وكُتِبْ على لوحة الكتاب: وقد عني بتصحيحه وتخريج أحاديثه وتعليق حواشيه الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي. ووقف على تصحيح طبعه حسين وصفي رضا.
ووجدتُ في آخر طبعة مكتبة الكليات الأزهرية -وهي مأخوذةٌ عن طبعة المنار- ما يلي: تم نسخًا على يد حامد بن أديب المتقي لقبًا الأثري مذهبًا في أواخر رمضان سنة ١٣٢٧.
وحامد التقي من تلاميذ القاسمي والآخذين عنه (^٣)، فيظهر أن القاسمي كلَّفه بنسخ الرسالة على الأصل المخطوط (^٤)، ثم تولى هو
_________
(^١) بواسطة وإشارة وجيه الحجاز الشيخ محمد نصيف. انظر: "الرسائل المتبادلة بين القاسمي والآلوسي" (٩٤ - ٩٨).
وقد أفادتنا هذه الرسائل أن الآلوسي هو الذي تسبَّب في معرفة القاسمي بنصيف الذي كان مفتاح خير في نشر الكتب النافعة. انظر: (٦٥) منها.
(^٢) قال القاسمي: "ظفرت بنسخة منه في خزانة كتب الجَدِّ -عليه الرحمة-، ضمن أحد المجاميع". "الرسائل المتبادلة بينه وبين الآلوسي" (٧٥).
(^٣) انظر "الأعلام" (٢/ ١٦٠). وانظر صورة إجازة القاسمي له في كتاب د. نزار أباظة على القاسمي (٢١٩ - ٢٢١).
(^٤) ويومئ إلى هذا قوله-: في "الرسائل" (٧٦) -: "فرأيت أن ننسخه ثانية، لأن النسخة الأولى لا يستطيع الطابع طبعها؛ لقدم عهدها".
المقدمة / 18
التعليق عليها، وربَّما مقابلتها.
وفي آخر الرسالة تنبيهٌ من الواقف على تصحيحها على ما وقع فيها من أغلاطٍ طباعية.
وقد جاءت هذه الطبعة مطابقة لأصلها الخطي تقريبًا، إلا في مواضع يسيرة، وهذا مما يُحْمدُ لَها، إلا أنها تابَعَتْهُ حتى فيما جانب الناسخ فيه الصواب، وضلَّ عنه قلمُه (^١)، ولم تشِرْ إلى ذلك، ولا عَلَّقَتْ عليه، وقد كانت أحقَّ ببيان هذا وأهلَه.
وتميَّزت هذه الطبعة بتعليقات العلامة القاسمي (^٢)، التي كتبها -في غالب الظن- قبل وفاته بخمس سنين، بعد ما اسْتَحْصَدَ زرعُه واستغلظ، وألقى عصاه واستقرَّ به النوى على المنهج الحقِّ في التلقِّي والتفقُّه (^٣).
وكانت هذه الطبعة أصلًا لما تلاها من طبعات:
- طبعة مكتبة الكليات الأزهرية، بمصر.
- وطبعة مطبعة الإِمام، بمصر.
- وطبعة المكتب الإِسلامي ببيروت سنة ١٤٠٦ بتصحيح محمَّد عفيفي، الذي أشغله تسويدُ التعليقات الطوال عن خدمة نصِّ الرسالة، بمقابلته على أصله الخطي، وتوثيق نقوله، وإضاءته بتعليقاتٍ كاشفةٍ مختصرة، وتذييله بفهارس هادية.
_________
(^١) انظر: (ص: ٦، ٧، ٨، ١٢، ١٣، ٢٣، ٢٧، ٣٤، ٣٩، ٤١، ٤٢، ٤٨، ٤٩، ٥٢، ٥٣، ٥٩، ٦١، ٦٢، ٦٣، ٦٥) من نشرتنا.
(^٢) وقد كان مهتمًّا مُعتزًّا بها. قال في رسالته التي بشَّر فيها الآلوسي بالإعلان عن طبع الرسالة (١٢٥ - ١٢٦): "وأظنُّ أنه إذَا قُدِّمَ منه لسيادتكم تكون لتعليقاته حظوةٌ كبرى. وقد اهتممتُ بالعناية بها جدًّا، سيمَّا أول تعليقة ... ".
(^٣) كما هو معلومٌ لمن له فضلُ عنايةٍ بالرجل وتاريخه.
المقدمة / 19
وقد أُلحِق بطبعة القاسمي -فغالبِ ما تلاها- قصيدةٌ طويلة لشاعر العراق معروف الرصافي، في الانتصار لمذهب شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في مسائل الطلاق، تصوِّرُ قصة رجلٍ محبٍّ لزوجه، غاضبه رفقاؤُه يومًا، فحلف بطلاق امرأته ثلاثًا، فحنث، فأوقعها عليه بعض الفقهاء، فعاتبتهُ زوجهُ عتابًا مرًّا باكيًا. ثم التفت الشاعر إلى فقهاء عصره، فلامهم، وأشاد بابن القيم وبكتابه "إعلام الموقعين".
ولم أر فيها إشارة لرسالتنا هذه، تسوِّغُ إلحاقها بها (^١).
ثم وقفتُ -بعد الفراغ من تحقيق الرسالة ومراجعتها- على طبعةٍ جديدة لها بتحقيق عمر بن سليمان الحفيان عن مؤسسة الرسالة ببيروت، سنة ١٤٢٤ - ٢٠٠٤ م.
وهي طبعةٌ جيدةٌ في الجملة، اعتمد المحققُ فيها على الأصل الخطِّي الذي اعتمدنا عليه، وأَثْبَتَ تعليقات الشيخين القاسمي وابن مانع في حواشيه، واعتنى بها عناية حسنة، ولم تخلُ من هناتٍ يسيرة لا يخلو من مثلها عملُ الحريص، ولا يحتملُ المقام ذكرها مفصَّلة، وقد نبَّهت عليها في موضعٍ آخر.
_________
(^١) وفوق ذلك، فالرُّصافيُّ رقيقُ الدِّيانة، على فحولة شعره، قبيحُ السيرة، على ملاحة رَصْفه، وليسْ مثلُه ممَّن يتكثرُ بمدحه، ويُفرَحُ بتزكيته.
وقد كدَّر ثناءه على ابن القيم بنيلِه من فقهاء المذاهب، وعَيْبه لهم، ونَعتهم بالغلو والتعسير. وما بِهم ذلك؛ فإنهم وإن جانبوا الصوابَ في مسألةٍ، فعن اجتهادٍ سائغٍ صَدروا، أو لإمام مُتَّبَع قَلَّدوا، وفي كلٍّ عُذر.
ولذا ضربت صفحًا عن إثبات القصيدة؛ لأنها بزخارف الشعراء أشبه، وعن خِلال العلماء أَبْعَد. وقد جعل اللهُ لكل شيءٍ قدرًا.
المقدمة / 20
الأصل الخطيُّ المُعْتمَدُ عليه
اعتمدتُ في إخراج الرسالة على مصوَّرة الأصل الخطي الذي كان بمكتبة العلامة القاسمي، قبل أن يستقرَّ في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض.
وهو أصلٌ نادرٌ فريد (^١).
قال الشيخ عبد الله الرواف (ت: ١٣٥٩) (^٢): إنه لا نظير له، ولا في خزائن كتب نجد (^٣).
علَّقه فقير رحمة ربه الباري، محمد بْنِ عبد الله بن هشام الأنصاريّ (^٤)، في شهر شعبان سنة ٨٨٥.
_________
(^١) وفي "تاريخ الأدب العربي" لبروكلمان (٦/ ٤٢٦)، إشارةٌ إلى أن ثمة نسخة أخرى الرسالة في المتحف البريطاني، برقم (١٩٩٢).
وبعد طلب هذا المخطوط والنظر فيه تبيَّن أنه قطعة من الإغاثة الكبرى "إغاثة اللهفان عن مصائد الشيطان".
(^٢) من فضلاء القصيم، رحل إلى الشام، وأخذ عن القاسمي، ونشأت بينهما صداقة، وله شغفٌ بالكتب، نسخًا وتحصيلًا وسعيًا في نشرها.
له ذكرٌ كثيرٌ في الرسائل التي بعثها القاسمي إلى الآلوسي، وله ترجمة في "علماء نجد" لشيخنا ابن بسَّام (٤/ ٢٨).
(^٣) انظر: "الرسائل المتبادلة بن القاسمي والآلوسي" (٩٨).
(^٤) لعله: محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن هشام، الأنصاري، فتح الدين، المحب بن الجمال، من ذرية ابن هشام النحوي، حفظ القرآن، واشتغل بالفرائض وغيرها عند البدر المادراني، وأذن له، وعند العلاء البغدادي =
المقدمة / 21
وهو بخطِّ نسخيٍّ واضح، ويقع في عشر ورقات، في كل ورقة صفحتان، في الصفحة نحو سبعة وعشرين سطرًا.
وفي أسفل صفحة العنوان جوابٌ عن استفتاءٍ يتعلَّقُ بموضعٍ اختُلِفَ في حقِّ ملكيَّته، للشيخ نجم الدين الغيطي، وجماعة.
وفي هذا الأصل بعضُ الأخطاء التي لا أدري أمردُّها إلى سهو الناسخ وعجلته، أم إلى سقم الأصل الذي ينقل عنه؟.
وقد لقي العلامةُ القاسميُّ في تصحيحه -وهو يُعِدُّه للنشر- عناء (^١).
وكتب بخطه الأنيق الفارسي المُنمنم بِضْعَ تعليقات علي هذا الأصل، ثم تنفَّس فيها وزادها عند شروعه في طَبع الرسالة.
وأثبتَ في خاتمتها تاريخ فراغه من نقلها (^٢)، وتصحيحها، وتعليق الحواشي عليها، في رمضان سنة ١٣٢٧ (^٣).
_________
= الدمشقي، وحضر دروس القاضي الحنبلي، وتنزَّلَ في الجهات، وخطب بالزينية.
ترجمته في: "الضوء اللامع" (٨/ ١٠٨) و"السحب الوابلة" (٣/ ٩٨٠).
وذكرا له أخًا أكبر منه يقال له، محمَّد المحب؛ توفي سنة ٨٩١. يحتمل أن يكون هو المراد -أيضًا-.
(^١) كما أخبر عن نفسه (انظر ما نقلناه عنه في مبحث الثناء على الرسالة)، وقد بعث إلى الآلوسي يسأله إن كان عنده أصلٌ آخر للرسالة أن يبعثه إليه. انظر: "الرسائل" (٧٦).
(^٢) انظر ما قدمناه (ص: ١٨ - ١٩).
(^٣) ضُرِب على هذا التقييد في الأصل ضربًا خفيفًا.
المقدمة / 22