البلاغة.
وأما بلاغة الكلام:
فهي مطابقته لمتقضى الحال١ مع فصاحته.
_________
١ أي لجميع ما يقتضيه الحال على قدر الطاقة، فالمراد المطابقة الكاملة وقوله لمتقضى الحال أي لمناسب الحال لا موجبه، والمراد بمناسب الحال الخصوصيات التي يبحث عنها في علم المعاني دون كيفيات دلالة اللفظ التي يتكفل بها علم البيان إذ قد تتحقق البلاغة في الكلام بدون رعايتها بأن يؤدي الكلام الطابق بدلالات وضعية. نعم إذا أدى المعنى بدلالات عقلية مختلفة في الوضوح والخفاء فلا بد في بلاغة الكلام من رعاية كيفية الدلالة أيضًا.
والحال هو الداعي للمتكلم إلى إيراد الكلام على وجه مخصوص، أي إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المعنى خصوصية ما، وهي مقتضى الحال. مثلًا إنكار المخاطب للحكم حال يقتضي تأكيده، والتأكيد مقتضى الحال. ومعنى مطابقته له أن الحال إن اقتضى التأكيد كأن الكلام مؤكدًا وإن اقتضى الإطلاق كان الكلام عاريًا عن التأكيد، وهكذا إن اقتضى حذف المسند إليه حذفه وإن اقتضى ذكره ذكره، إلى غير ذلك من التفاصيل المشتمل عليها علم المعاني. فالإنكار حال، والتأكيد مقتضى، وقولك "إن زيدًا في الدار" مؤكدًا بأن كلام مطابق لمقتضى الحال، يعني أنه مشتمل عليه، إذ هذا المثال مشتمل على التأكيد، وليس المراد بكونه مطابقًا له أنه جزئي من جزئياته إذ لا يصدق عليه أي لا يحمل عليه، ضرورة أن مقتضى الحال هو التأكيد وهو لا يحمل على قولك أن زيدًا في الدار إذ لا يقال "إن زيدًا في الدار" تأكيد، فالمراد بالمطابقة هنا الاشتمال لا مصطلح المناطقة الذي هو الصدق.
والتحقيق أن مقتضى الحال هو الكلام الكلي المشتمل على الخصوصية، ومطابقة الكلام لذلك المقتضى كون الكلام الجزئي الصادر من المتكلم الملقى للمخاطب المشتمل على الخصوصية من أفراد ذلك الكلام الكلي الذي يقتضيه الحال، فإن ذلك المقتضى صادق عليه، فقولنا" إن زيدًا في الدار" مؤكدًا جزئي من جزئيات ذلك الكلام الكلي الذي يقتضيه الحال، الذي هو الإنكار المقتضى لكلام مؤكد بمطلق تأكيد لا بتأكيد مخصوص، فقولنا "أن زيدًا في الدار" مطابق له بمعنى أنه صادق عليه -أي بمعنى أن الكلام الكلي المؤكد الذي هو مقتضى الحال صادق ومحمول على هذا الجزئي لكونه جزئيًّا من جزئياته. فالبلاغة على هذا التحقيق مطابقة هذا الجزئي لذلك الكلي بمعنى كونه جزئيا من جزئياته بحيث يصح حمل مقتضى الحال عليه، فالكلام الجزئي مطابق "بكسر الباء" والكلام الكلي مطابق "بفتحها". هذا هو تحقيق السعد في مختصره، وإن كان قد حقق في كبيره أن التحقيق هو مذهب الجمهور الأول: من أن المقتضى هي الخصوصية والمطابقة هي الاشتمال. وهذا والحال على المذهبين واحد، وهو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما، سواء كان ذلك الأمر داعيًا له في نفس الأمر أو غير داع في نفس الأمر بل بتنزيل، فالحال هو الأمر الداعي مطلقًا. أما ظاهر الحال فهو الأمر الداعي في نفس الأمر لاعتبار المتكلم خصوصية ما، فهو أخص من الحال.
1 / 41