Confesiones de un joven de la época
اعترافات فتى العصر
Géneros
وكنت أتوقع أن أرى زاهدة عابدة، أو على الأقل امرأة قروية لا علم لها بشيء مما يجري وراء ضاحيتها، ولا تحيد عن عادات محيطها، وقد كنت أنظر إلى من يعيشون منعزلين كأنهم يختفون عن الناس هنا وهنالك في المدن بشيء من الحذر كأنني أرى فيهم بئرا آسنة فسد فيها الهواء، فإن في كل ما يتلفع بالنسيان على الأرض شيئا من الموت، غير أنني رأيت على مكتب مدام بيارسون جرائد ومجلات حديثة كانت ترصد لها ما يتبقى لديها من الوقت. وقد كان كل ما حولها من الرياش وما تلبسه من ثياب يدل على التجديد في الزي والحياة، فكانت تتمتع بكل ذلك وكأنها منسلخة عما حولها. وقد استرعى انتباهي ما في ذوقها من التناسق الذي يند عن كل مستغرب، فلا تأنس إلا للجدة والحسن، وكان حديثها يدل على علم مستكمل، فما كانت تتناول موضوعا دون الإجادة فيه، فكنت أحس بأن وراء هذه السذاجة غورا مليئا بالكنوز، وأن ذكاء طليقا وافرا يرف فوق قلبها الهادئ في عزلتها، فكأن هذا الذكاء طير من أطيار السواحل يتعالى إلى السحاب مرفرفا فوق طحلب الصخور حيث ابتنى عشه.
ودار حديثنا حول الأدب والموسيقى، وكدنا نتناول السياسة، وكانت قد ذهبت في الشتاء إلى باريس، وما كانت تتصل بالمجتمع إلا في فترات متقطعة، غير أن القليل الذي كانت تشاهده كان يكفيها لفتح مجال وسيع أمام تفكيرها.
وكان خير ما يجملها سرور هادئ لا يصل إلى المرح الذي يثب وثبا، فكأنها خلقت زهرة عبيرها السرور.
ويعجز بياني عن وصف ما كانت تفعل عيناها السوداوان وهما تلتمعان على صفحة وجهها الشاحب، ومما كان يزيد في بهائها سكنات وحركات تأتي بها عفوا؛ فتدل على أنها عركت الدهر وبلت الحياة.
وما أدري أية قوة كانت تعلن أن السرور المكلل لجبين هذه المرأة لم يأتها من هذا العالم، بل أنزل عليها من السماء، وأنها ستعود بهذا السرور كاملا إلى الله بالرغم من الناس، فكانت هذه المرأة تتجلى لي في بعض اللحظات كحاملة قبس تتنسم هبوب الريح لتقي النور المشع في يدها.
وما أمضيت ساعة في الغرفة الصغيرة حتى اندفعت أحدث صاحبتها عن كل سرائري، ذاكرا حياتي الماضية وما تركت لي من أصحاب، وما تحملت فيها من الأحزان، وكنت أتمشى في الغرفة، فتارة أنحني على الأزهار أنشق عبيرها، وتارة أرفع رأسي إلى السماء محدقا بالشمس، ثم تقدمت إلى مدام بيارسون أخيرا ورجوتها أن تسمعني إنشادها، فما ترددت وبدأت تنشد، فذهبت إلى النافذة لأتطلع إلى الطيور بينما أتنصت إلى الإنشاد، وخطرت على بالي كلمة «لمونتان»، وهي: «لا أحب الحزن ولا أحترمه بالرغم من إجماع الناس على تمجيده، فما الحزن إلا كلمة حمقاء جعلها الناس حيلة للحكمة والفضيلة.»
وسمعت صوتي يتعالى بالرغم مني قائلا: يا للسعادة! ويا للراحة والمسرة والسلوان!
فرفعت العمة رأسها ونظرت إلي نظرة استغراب، وتوقفت مدام بيارسون فجأة عن الإنشاد، فعلا احمرار الخجل جبيني إذ شعرت بما أتيت من جنون، فارتميت على المقعد صامتا.
ثم نزلت وإياها إلى الحديقة، فرأيت هنالك الجدي الأبيض راقدا على العشب، ولما رآنا هب نحوها ومشى ليتبعنا، وما قطعنا أول ممشى في الحديقة حتى لاح لنا قرب المدخل شاب طويل القامة، شاحب الوجه، ملتف برداء أسود، فاجتاز الحاجز دون أن يقرع الجرس، وتقدم إلى مدام بيارسون مسلما، ولحظت أن غمامة سوداء مرت على ملامح هذا الرجل عندما رآني، وقد تشاءمت أنا لمرآه. وكان القادم كاهنا يدعى مركانسون - كنت شاهدته في القرية - وهو من خريجي سان سولبيس، ومن أنسباء الكاهن خادم الرعية.
وكان هذا الرجل بدينا شاحب اللون، وما كنت حياتي إلا مستقبحا هذا النوع من الصحة العليلة. وكان هذا الرجل فضلا عن هذا التناقض في شخصه يتكلم بلهجة تدل على الادعاء، فكان يورد ألفاظه متوثبة متمهلة، وكان في مشيته شيء من التصنع المتثاقل زاد في نفوري منه. أما نظراته فلا يسعني أن أقول عنها إنها نظرات؛ لأنها ما كانت لتعني شيئا.
Página desconocida