Confesiones de un joven de la época
اعترافات فتى العصر
Géneros
وما أرى ما أصور به حياة الخلعاء إلا وصف عجلة يقتعدها في أعياد المرافع رهط المقنعين، وهي تخترق الطرق مكشوفة يلعب الهواء بما عليها من مشاعل تنير الوجوه المكلسة، وعلى هذه العجلة فئة تغني، وفئة تضحك، وبين الفئتين تلوح مخلوقات كأنها نساء، وما هي في الواقع إلا بقايا نساء عليهن من الإنسانية آثار عافية. ويا لهن من نساء يلقين بين القبل كل أنواع الإهانات والتحقير، ولا يعرف المحتضن لهن هوية ولا اسما.
وكل هذا الرهط تسير به عجلة المساخر مقرقعة تنيرها مشاعل الغاز الملتهب، وقد تحكم السكر في الرءوس فجمد فيها كل تفكير. ولقد يخيل إليك من حين إلى حين أن هنالك ما يشبه الاحتضان والتقبيل، وإذا تدحرج أحد من هذه العجلة فما يهتم أحد بأمره، وهل يهتم لشيء من يرى نفسه خارجا من عدم سائرا إلى عدم؟ على هذه الوتيرة تسير خيول العربة خببا، ويمر رهط المسافرين ...
إذا كان الدهش هو أول ما يشعر به المنخرط في سلك الخلعاء، فما يشعر به بعد ذلك إنما هو الاشمئزاز يقبض على القلب ليجره جرا إلى الإشفاق.
إن ميدان الخلاعة مجلى للقوة، أو بالأحرى مجال لاستنفاد الحياة، وذلك ما يجتذب الكثيرين من عشاق المجازفة، فيقدمون إلى هذا الميدان ليبذلوا نفوسهم مبددين ما فيهم من قوى، فهم كالفارس العنيد يمتطي فرسا جموحا، وينطلق غير شاعر بما يعلق من لحمه ومن دمه على أشجار الطريق، ولا بالشرر يتطاير من محاجر الذئاب تتبعه في الأرجاء المقفرة، ولا بالغربان تحوم ناعبة فوق رأسه.
لقد سردت الحوادث التي رمت بي إلى هذه الحياة، فعلي الآن أن أقص ما رأيت فيها:
لأول مرة رأيت فيها المجتمعات التي يدعونها مراقص مقنعة، كنت سمعت من يقول إن فيها دعارة القصور، وإن إحدى ملكات فرنسا تنكرت فيها بزي بائعة أزهار، ولكنني ما شهدت في هذه المراقص إلا بائعات أزهار متنكرات بزي خادمات الجنود. كنت أحسب أنني سأجد فيها الدعارة، فكذب الواقع حدسي، وما يمكن أن ندعو دعارة هبابا متساقطا من دخان، ولكما وصفعا وفتيات سكارى منطرحات كالأموات على ركام الكئوس المحطمة.
لأول مرة رأيت فيها فسق المائدة، كنت سمعت أحاديث الشراهة في الولائم، وبلغني اسم فيلسوف يوناني أقام دين الفطرة على لذة الحواس، فكنت أتوقع أن ألاقي في هذه الولائم شيئا من الاستغراق المنسي إذا امتنعت الأفراح الحقيقية فيها، فما وجدت إلا أقبح ما في الحياة، ما وجدت إلا ملالا يحاول أن يتمتع بالعيش، فكان هنالك قوم يسودهم الخلق الإنكليزي يتحدثون عن أعمالهم، ويجدون التسلية في هذا الحديث وهم يقدرون ملذاتهم على ما بذلوا من مال، وعلى هذه الوتيرة تدور عليهم رحى الحياة.
لأول مرة رأيت فيها بنات الهوى بعد أن كنت سمعت قصة «إسبازي» يحتضنها «السيبياد» وهو يتناقش مع «سقراط»، كنت أتوقع أن أرى انطلاقا وقحا فيه شيء من المرح وخفة الروح، كنت أتوقع أن أشاهد ما يغلي ويطفو كحباب الراح المعتقة، فما وجدت إلا شفاها متراخية، وعيونا جاحظة، وأنامل متشنجة.
لأول مرة رأيت فيها السيدات المتهتكات، كنت قرأت «بوكاس» و«باندللو» بعد أن طالعت «شكسبير»، فكنت أتخيل هؤلاء السيدات ملائكة جحيم يواجهن الحياة بالرشاقة والمرح، وكنت أرسم منهن أشكالا تنم عن الجنون في الخيال، وقوة الإبداع والقحة بعيون ساحرات تثير برشقة لحظ فاتر أحاديث شجون وغرام. كنت أحسبهن في الحياة تموجا واهتزازا كآلهات البحار، وأراهن مرنحات ثملات، أو منطرحات سكرا من خمرة الحب والهيام. هذا ما كنت أتصور وما كنت أتوقع أن أرى، فما رأيت إلا محررات رسائل وضاربات مواعيد، دأبهن إرسال الأكاذيب لرجل مجهول بعد رجل مجهول، وستر الدنايا بالرياء، وكلهن لا يرمين إلا إلى هدف واحد: الاستسلام والنسيان.
لأول مرة ارتدت فيها أندية الميسر، وكنت سمعت الأحاديث عن جداول الذهب والثروات المحققة بلحظة من الزمان، وعن سيد من قصر هنري الرابع ربح بورقة واحدة مئة ألف ريال - وهي قيمة ما كان يرتدي من ملابس - لم أجد في هذه الأندية إلا دكان أثواب يستأجر منه العمال المرتدون قميصا ليس لهم سواه ثوبا بعشرين درهما لتمضية سهرة واحدة، وما رأيت إلا جلاوزة يحرسون باب ناد فيه رهط الجائعين يقامرون مجازفين بطلقة عيار ناري على أدمغتهم مقابل رغيف ...
Página desconocida