والجواب أنّ العلماء اختلفوا في ذلك:
فذهب قوم إلى أنّه لم يكن من الملائكة، وجعل الاستثناء هاهنا منقطعا، كقوله تعالى (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ)، وأنشد سيبويه:
والحَرْب لَا يَبْقى لجا ... حِمِها التخيُّلُ والمِراحُ
إلا الفتى الصبَّارُ في المنجـ ... داتِ والفرسُ والوقاحُ
وأحتج على صحة هذا القول بقوله تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فنفى المعصيةَ عنهم نفيا عاما، واحتج أيضا بقوله تعالى (إلا إبليس كان من الجن)، ومتى أطلق لفظ (الجن) لم يجز أنّ يُعنى به إلا الجنسُ المعروف، واحتج أيضا بأن إبليس مخلوقٌ من النار، والملائكة روحانيون خلقوا من الريح، وقال الله تعالى في إبليس وولده (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) واحتج أيضا بقوله تعالى (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا)، فعمها بالوصف بالرسالة، ولا يجوز على رسل الله أنّ تكفر، ولا أنّ تفسق. كما لا يجوز على رسله من البشر من قبل أنّهم حجة لله على خلقه فالملائكة بهذه المنزلة، ولو جاز عليهم الفسقُ لجاز عليهم الكذب، فكان يكون لا سبيل إلى الفرق بين الصدق والكذب فيما أخبروا به عن الله.
وذهب الجمهور من العلماء إلى أنّه من الملائكة، واحتجوا بأنّه لو كان من غير الملائكة لما كان ملوما في ترك السجود؛ لأنّ الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم. قال: وأما ما احتج به من أنّهم (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وأنّه نفى نفيا عاما، فإنَّ العموم قد يختص
1 / 34