حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَتَصَوُّرُهُمْ فِي الْقُلُوبِ، وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِمْ، وَزُهْدِهِمْ وَوَرَعِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ، وَانْصِرَافِهِمْ عَنِ الدُّنْيَا وَاحْتِقَارِهِمْ لَهَا وَصَبْرِهِمْ عَلَى شَدَائِدِ الطَّاعَاتِ وَالْمَصَائِبِ فِي اللهِ، فَيَتَخَلَّقُ النَّاظِرُ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَيَتَعَطَّرُ السَّامِعُ بِأَحْوَالِهِمْ، فَالطَّبْعُ مُنْقَادٌ، وَالْإنْسَانُ مُعْتَادٌ، وَالْأُذُنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا.
وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ النَّجَاةِ الِاسْتِقَامَةَ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِسَائِقٍ (^١) وَقَائِدٍ، كَصُحْبَةِ الصَّالِحِينَ، أَوْ سَمَاعِ أَحْوَالِهِمْ وَالنَّظَرِ فِي آثَارِهِمْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْصُّحْبَةِ، حَيْثُ تَتَصَوَّرُ (^٢) النَّفْسُ أَعْيَانَهُمْ، وَتَتَخَيَّلُ مَذَاهِبَهُمْ؛ لِأَنَّكَ لَوْ أَبْصَرْتَ لَمْ يَبْقَ عِنْدَكَ إِلَّا التَّذَكُّرُ وَالتَّخَيُّلُ، وَكَانَ السَّمْعُ كَالْبَصَرِ، وَالْعَيَانُ كَالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَابِلٌ فَطَلٌّ، سِيَّمَا وَعِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ. وَذِكْرٌ لِلَآخِرِينَ وَاعْتِبَارُهُمْ، فَلَوْلَا الْكُتُبُ لَنُسِيَ أَكْثَرُ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْوَالِ، وَكَانَ بَعْدَ قُرْبٍ (^٣) لَمْ يُذْكَرِ الصَّادِرُ وَلَا الْوَارِدُ، وَلَا الطَّرِيفُ وَلَا التَّالِدُ.
وَالدُّرَّةُ الْمَكْنُونَةُ وَالْجَوْهَرَةُ الْمَخْزُونَةُ، عِلْمُ الْحَدِيثِ، الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ، وَأَصْلُ الْأَحْكَامِ، وَمُبَيِّنُ الْحَلَالِ وَالحَرَامِ، وَمُقْتَدَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَبَيَانُ مُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَمَرْكَزُ الْحَقِيقَةِ وَالصَّوَابِ. يَعْنِي: وَهَذَا الْفَنُّ طَرِيقٌ إِلَيْهِ، وَتَحْقِيقٌ لِلْمُعَوَّلِ مِنْهُ عَلَيْهِ.
وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ تَصْنِيفِهِ لَهُ الاسْتِرْوَاحُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ تَصْنِيفِ كِتَابِ "التَّحْقِيقُ" الْجَامِعِ أُصُولَ مَسَائِلِ الْفِقْهِ الْجَلِيلِ مِنْهُ وَالدَّقِيقِ إِلَى هَذَا الْعِلْمِ اللَّطِيفِ،