تقديم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه.
وبعد: فقد اطَّلعتُ على عمل الشيخ عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح، في إخراجه لكتاب "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لسراج الدين عمر بن علي ابن الملقن " وتحقيقه له، فوجدته عملًا جيدًا في جملته. قد بذل فيه مجهودًا يشكر عليه، فجزاه الله خيرًا وأثابه على ما قام به من خدمةٍ لهذا الكتاب الجليل.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه.
كتبه
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
٢٤/ ٥/ ١٤١٦ هـ
1 / 1
تقديم
الحمد لله ناصر عباده الصالحين ولو بعد حين، موفِّق من شاء منهم لنصرة هذا الدين، كُلٌّ بما فتح الله عليه في حراسة ثغر من ثغوره على مَرِّ السنين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى صحابته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْدُ: فهذان عالِمان محدِّثان، حافظان، مَشرِقِيَّان، بَيْن وَفَاتَيهِما قَرْنَانِ من الزمان وأربعة أعوام؛
أحدهما: دمشقي حنبلي، هو الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (ت ٦٠٠ هـ).
والثاني: مصري شافعي، هو الحافظ أبو حفص عمر بن علي ابن الملقن الأنصاري (ت ٨٠٤ هـ)، توافرت همتهما على خدمة هذه الشريعة المباركة في ينبوعها الحديثي.
فالأول هُنَا: مَاتِنٌ في كتابه: "عمدة الأحكام فيما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلما" إذ جمع فيه (٤٢٧) حديثًا، رَتَّبها على أبواب الفقه؛ وفق ترتيب الحنابلة، ولعله أول مَنْ نَزَعَ إلى هذا النوع من التخريج، المجرد عن الأسانيد، المقتصر على أحاديث من
1 / 2
الصحيحين في أحكام أفعال العبيد، ثم قَفَاهُ الناس بالتأليف على منواله، وتنافس الأعلام على شرح كتابه. وكانت الإلتفاتة بتصحيح ألفاظه، وعزوه، من نصيب العلامة الزركشي، وهذا الحافظ -رحمة الله عليه- صاحب مبادرات موفقة، حديثية جليلة، ولو لم يكن منها إلاَّ أنه أول من أَلَّف في رجال الكتب الستة مجتمعين في كتابه: "الكمال ... "، والناس بعده عليه عيال.
والثاني: شارح له وهو ابن الملقن، أعجوبة عصره في كثرة تصانيفه، ومنها شرحه هذا: "الإِعلام بفوائد عمدة الأحكام"، وهو شرح نفيس جِدًّا، حافل بالفوائد واللطائف، وتحرير الأحكام، وَفَكِّ المبهم، وكشف المهمل، وقد نزع في العرض طريقة مفصلة، لم نرها في شُروح من تقدمه.
وعلى بابته، جَرَى عَصرِيُّهُ، وَبَلَدِيُّهُ، الحافظ في بدر الدين العيني الحنفي (ت ٨٥٥ هـ) -رحمه الله تعالى- في كتابه: "عمدة القاري" لا سيما في المجلدات الأربعة الأولى فَلَعَلَّهُ استفادها منه، كما استفاد من شرحه دون عزوٍ إليه، فالله يغفر لنا وله.
كما شاركه في الإستفادة من هذا الشرح: تلميذه الحافظ شهاب الدين ابن حجر الشافعي (ت ٨٥٢ هـ) في شرحه الفائق: "فتح الباري" فإنه اتَّكَأَ على شرح شيخه هذا في الأحاديث التي تناولها بعزو على ندرة، وبدون عزو بكثرة؟؟
أقول: كيف وَقَعَ هذا مع جلالة البدر، والشهاب، يا ليتني ما دريته، لكن معاذ الله، أن نتَّبع إلَّا من وجدنا متاع ابن الملقن عنده
1 / 3
-رحم الله الجميع- وجزاهم خيرًا على جهودهم الفائقة في حراسة هذا الدين.
وإذا كان هذا الكتاب، يحتل هذه المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة، وتميزه بطريقة العرض في تنظيمها الدقيق المناسب لأهل عصرنا، علمت مقدار ما منحه الله -تعالى- من التوفيق، لمحقق هذا الكتاب: فضيلة الأخ في الله الشيخ عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح، فإنه -بحمد الله- قد وُفِّقَ بِحُسْن الاختيار، وحُسن الإخراج، وبَذْل الجهد في المقابلة، والتخريج، وتَوثيق النقول، والأقوال، كما ظهر لي ذلك من قراءة جُلِّ النص المحقَّق في الجزء الأول، فجزاه الله خيرًا، وشكر سعيه. والحمد لله رب العالمين.
وكتب
بكر بن عبدالله أبو زيد
٢٢/ ٥/ ١٤١٧ هـ
1 / 4
مُقَدّمة المحقق
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)﴾.
وبعد: فإنه لما كان العلم أشرف ما يُتَحَلَّى به في الوجود، وأحسن ما يتفضل الله به على عباده ويجود، قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ فَفَضَّلَ مَنْ مَنَّ عليهم بهذا وزينهم بلباس التقوى والوقار، لمَّا تزين غيرهم باللباس الفاني، وأَكرمهم بخاصية أن قرن ذكرهم بذكره وأشهدهم على وحدانيته،
1 / 5
قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ١٨]، فهم أهل الخشية والشكر، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨]، فبهم يسترشد المسترشدون وبنورهم يستضيء المهتدون ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] ليرشدوهم إلى سبيل الحق، والواجب لله على الخلق، وأَراد بهم خيرًا حيث فقههم في الدين، "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" فجميع الخلائق مأمورون بالاهتداء بهديهم، والرجوع إليهم في دينهم، إذا تمسكوا بحبل الله القويم وسلكوا صراطه المستقيم، فهم المكرمون بوراثة النبيين.
إن العلماء ورئة الأنبياء، ففضَّلهم في الدنيا بأن يستغفر لهم كل حي وبأنهم كالقمر ليلة البدر لشدة الإِضاءة لأحوال العباد في
العبادة، وفي الأخرى الحشر في زمرة الأنبياء والرسل، فهذا هو العلم النافع الذي يورث خشية الله ويبلغ رضاه، والذي يستفيد منه العالم مع القليل من العمل. فإن من عرف هذا فعليه بالاجتهاد لينال ما يرجو من النجاة في يوم المعاد، حيث قلة بضاعة كثيرين من الناس -في هذا الزمن- ممن ينتسبون إلى العلم الشرعى -أمثالي- من الأحاديث النبوية الصحيحة، والناس عيال في العلم على من قبلهم من أئمة أهل العلم.
فالتمست خدمة هذا الفن بحسب الحال، فألزمت نفسي بالبحث والتفتيش فيما وقعت عليه يدي من فهارس الكتب المطبوعة والمخطوطة بحثًا عن كتاب نافع أصيل في هذا الشأن رجاء أن يحقق الله لي به تلك الأمنية، فهداني الله وله الحمد والمنة إلى مخطوطة كتاب"الِإعلام بفوائد عمدة الأحكام" وهو شرح نفيس لكتاب "عمدة
1 / 6
الأحكام"، فلما قرأت ما تيسر لي منها واطلعت على بعض كلام أهل العلم في الإحالة عليها والثناء عليها وعلى مؤلفها ﵀ ولا سيما الأئمة المعتبرين شرح الله صدري لتحقيق مخطوطته وطباعته ليكون في متناول الراغبين في الإطلاع عليه والاستفادة منه من أهل العلم؛ لأن ذلك من الإعانة على البر والتقوى والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فاستعجلت ذلك لعدة أمور، منها:
أولًا: خشية تعرض المخطوطة للتلف أو النسيان.
ثانيًا: الإسراع في تحقيق الاستفادة منها خدمة لطلبة العلم وليحوز مؤلفه ﵀ عظيم الأجر، قال ﷺ: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث ... " ثم قال: "علم ينتفع به".
ثالثًا: كون هذا الشرح من أنفس الشروح لكتاب عمدة الأَحكام الذي نفع الله به علماء المذاهب في سائر العصور.
رابعًا: كثرة المعتنين بحفظ متنه والمشتغلين بتدريسه وشرحه من أهل العلم فأحببت أن يكون هذا الشرح في متناول أيديهم تتميمًا للفائدة، وإعانة على الخير.
وبعد: فهذا واحد من كتب الأكابر من أهل العلم المغمورة التي كادت أن تدخل في طي النسيان بعد غياب طويل، وقد بذلت غاية الجهد -حسب الحال- و﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ في إخراجه بصورة علمية أحسبها تتناسب مع مكانة الكتاب والمطلعين عليه، فإن أصبت فمن توفيق الله ﷿، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم.
1 / 7
وأشكر الله العلي القدير أن يسر مقابلته وتصحيحه، والتعليق عليه وتخريج أحاديثه -حسب الاستطاعة-، وأن شرفني بخدمة
هذا الكتاب ومؤلفه، وأسأله سبحانه أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يجعله في ميزان حسناتي ومؤلفه ومَنْ كتبه، ومن اطَّلع عليه وقرأه، ومن ساهم في نشره وتوزيعه، وأن يعم بنفعه جميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يغفر لي ولوالديّ ومن قَرَأْنا عليه، وأن يصلح لنا النيات والذريات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله الطيبين وأزواجه أمهات المؤمنين.
1 / 8
ترجمة موجزة للحافظ عبد الغني صاحب "العمدة"
أولًا- مصادر الترجمة على حسب تواريخ وفيات مؤلفيها:
١ - ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) معجم البلدان (٢/ ١٦٠) جماعيل.
٢ - ابن نقطة (ت ٦٢٩) التقييد (٢/ ١٣٨).
٣ - ابن الدبيثي (ت ٦٣٧) في تاريخه (انظر: المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي) انتقاء الذهبي (٣/ ٨٢، ٨٣).
٤ - ابن النجار (ت ٦٤٣) المستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي (ص ١٦٧، ١٦٩).
٥ - المنذري (ت ٦٥٦) في التكملة لوفيات النقلة (٢/ ١٧) رقم (٧٧٨).
٦ - أبو شامة (ت ٦٦٥) في الذيل على الروضتين (ص ٤٦، ٤٧).
٧ - الذهبي (ت ٧٤٨) في تذكرة الحفاظ (٤/ ١٣٧٢)، وفي سير أعلام النبلاء (٢١/ ٤٤٣، ٤٧١)، وفي العبر (٣/ ١٢٩)، وفي
1 / 9
دول الإسلام (٢/ ١٠٧)، وفي المعين لطبقات المحدثين (ص ١٨٦).
٨ - ابن كثير (ت ٧٧٤) في البداية والنهاية (١٣/ ٣٨، ٣٩).
٩ - ابن رجب (ت ٧٩٥) في الذيل على طبقات الحنابلة.
١٠ - جمال الدين بن تغرى بردى (ت ٨٧٤) في النجوم الزاهرة (٦/ ١٨٥).
١١ - السيوطي (ت ٩١١) في طبقات الحفاظ (٤٨٥، ٤٨٦)، وفي حسن المحاضرة (١/ ٣٥٤).
١٢ - ابن طولون (ت ٩٥٢) تاريخ الصالحية (٢/ ٤٣٩).
١٣ - حاجي خليفة (ت ١٠٦٧) في كشف الظنون (١٠١٣، ١١٦٤، ١٥٠٩، ٢٠٥٣)
١٤ - ابن العماد الحنبلي (ت ١٠٨٩) شذرات الذهب (٤/ ٣٤٥، ٣٤٦).
١٥ - صديق خان (ت ١٣٠٧) في التاج المكلل (٢١٣).
١٦ - إسماعيل باشا (ت ١٣٣٧) ذيل كشف الظنون (٢/ ٦٩، ١٤٨، ١٩٦، ٢٩٦، ٣٠٨، ٣١٨، ٤٩٣).
١٧ - الكتاني (ت ١٣٤٥) الرسالة المستطرفة (٤٩).
١٨ - بروكلمان (ت ١٣٧٦) تاريخ الأدب العربي (٦/ ١٨٥، ١٩٢).
١٩ - الزركلي (ت ١٣٩٦) الأعلام (٤/ ٣٤).
1 / 10
٢٠ - كحَّالة في معجم المؤلفين (٥/ ٢٧٥).
٢١ - ترجمته في التنبيه للزركشي في مجلة الجامعة الإسلامية تح: د. الزهراني.
٢٢ - ترجمته في كتاب عقيدة الحافظ عبد الغني تح: د. البصيري.
وقد استفدت منهما كثيرًا في الترتيب مع شئ من الاختصار والتصرف بما يناسب الكتاب فجزاهما الله خيرًا.
...
ثانيًا- ترجمته:
اسمه ونسبه:
هو الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر، الجماعيلي، ثم الدمشقي المنشأ، الصالحي الحنبلي.
مولده ونشأته:
ولد بجماعيل من أرض نابلس سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، ونسب لبيت المقدس لقرب جماعيل منه؛ ولأن نابلس وأعمالها جميعًا من مضافات بيت المقدس، ثم انتقل مع أسرته من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي لمدينة دمشق أولًا، ثم انتقلت أسرته إلى سفح جبل قاسيون فبنوا دارًا تحتوي على عدد كبير من الحجرات دعيت بدار الحنابلة، ثم شرعوا في بناء أول مدرسة في جبل قاسيون وهي المعروفة بالمدرسة
1 / 11
العمرية، وقد عرفت تلك الناحية التي أسسوها بالصالحية فيما بعد نسبةَ إليهم، لأنهم كانوا من أهل العلم والصلاح، ومما زاد في تقوية نشأته الدينية والعلمية وجود نِدٍّ له يماثله في السن والطلب هو ابن خالته موفق الدين ابن قدامة صاحب "المغني"، حيث صاحبه في طلبه للعلم كما سيأتي في رحلته العلمية.
بدايته العلمية:
نشأ عبد الغني ﵀ في بيت علم وتقى وصلاح، فاتجه إلى طلب العلم في سن مبكر فتتلمذ في صغره على عميده أسرته العلامة الفاضل الشيخ محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو عمر والد صاحب "المغني"، ثم تتلمذ على شيوخ دمشق وعلمائها فأخذ عنهم الفقه وغيره من العلوم ومنهم: أبو المكارم بن هلال.
رحلاته:
كانت له رحلات علمية جاب خلالها كثيرًا من البقاع، وسمع فيها بدمشق والإسكندرية وبيت المقدس ومصر وبغداد وحِرَّان والموصل وأصبهان وهَمَذان وغيرها، وسافر إلى بغداد مرتين الأولى سنة ٥٦١، ومصر مرتين، وكان ارتحاله إلى دمشق وهو صغير بعد سنة خمسين وخمسمائة فسمع بها من أبي هلال، وسلمان بن علي الرحبي وأبي عبد الله محمد بن حمزة القرشي، وغيرهم. ثم رحل إلى بغداد سنة إحدى وستين وخمسمائة مع ابن خالته الشيخ الموفق فأقاما ببغداد أربع سنين، وكان الموفق ميله إلى الفقه والحافظ عبد الغني ميله إلى الحديث، فنزلا على الشيخ عبد القادر الجيلاني،
1 / 12
وكان يَرْعَاهُمَا ويحسن إليهما، وقرأوا عليه شيئًا من الحديث والفقه، وحكى الشيخ الموفق أنهما أقاما عنده نحوًا من أربعين يومًا ثم مات، وأنهما كانا يقرآن عليه كل يوم درسين من الفقه، فيقرأ هو من الخرقي من حفظه، والحافظ من كتاب الهداية.
قال الضياء: وبعد ذلك اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المنى وصارا يتكلمان في المسألة ويناظران، وسمعا من أبي الفتح ابن
البطي وأحمد بن المقرئ الكرخي وأبي بكر ابن النقور وهبة الله بن الحسن بن هلال الدقاق وأبي زرعة وغيرهم، ثم عادا إلى دمشق.
ثم رحل الحافظ سنة ست وستين إلى مصر والإسكندرية وأقام هناك مدة سمع فيها من السِّلفي، ثم عاد إلى دمشق، ثم رحل أيضًا إلى الإسكندرية سنة سبعين وأقام بها ثلاث سنين وسمع بها من الحافظ السلفي، وأكثر عنه حتى قيل: لعله كتب عنه ألف جزء، وسمع من غيره أيضًا، وسمع بمصر من أبي محمد بن بري النحوي وجماعة، ثم عاد إلى دمشق، ثم سافر بعد السبعين إلى أصبهان وكان قد خرج إليها وليس معه إلَّا قليل فلوس، فسهل الله له مَنْ حَمَلَهُ وأنفق عليه حتى دخل أصبهان وأقام بها مدة وسمع بها الكثير، وحصّل الكتب الجيدة ثم رجع.
وسمع بهمذان من عبد الرزاق بن إسماعيل القرماني، والحافظ أبي العلاء، وغيرهما، وبأصبهان من الحافظين: أبي موسى
المديني وأبي سعد الصائغ وطبقتهما، وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي، وكتب بخطه المتقن ما لا يوصف كثرةً، وعاد إلى دمشق.
1 / 13
ولم يزل ينسخ ويصنف ويُحَدِّثُ، ويفيد المسلمين، ويعبد الله حتى توفاه الله على ذلك.
وقد جمعت فضائله وسيرته، وممن أعدها: ضياء الدين، في جزئين، وذكر فيها أن الفقيه مكي بن عمر بن نعمة المصري جمع
فضائله أيضًا.
وهكذا قطع الفيافي وجاب الأمصار بحثًا عن العلم وجهادًا في سبيله.
عصر المقدسي:
وُلد المقدسي ﵀ في خلافة المقتفي لأمر الله (محمد المستظهر باللهِ). وهو عبارة عن رمز للخلافة وليس بيده من أمور الدولة شيء، ويعتبر هذا التاريخ عمق ضعف الدولة العباسية، فقد انفرط عقد الخلافة العباسية وبدأتْ في الانحدار من أوج قوتها بعد موت المعتصم، وأن كان ابنه المتوكل جعفر أصلح ما أفسده جده المأمون وأخوه الواثق هارون من أمر العقيدة، فأمات بدعة القول بخلق القرآن، وهذا العمل أبرز حسناته، ومنذ ذلك الوقت والمسلمون يعانون من الضعف السياسي وشتات الأمر، وكان ظهور الدويلات والممالك الإِسلامية وبالًا على وحدة المسلمين وإضعافًا لقوتهم، فسادت الفوضى السياسية واندلعت الحروب بين المسلمين وأُضْرِمَت نار الهلاك، وكثر النهب والسلب، ووجد الإفرنج فرصة سانحة لضرب المسلمين في عقر دارهم، ونشطت الفرق الهدامة.
كما عاصر المقدسي ﵀ خلافة المستنجد بالله ابن
1 / 14
المقتفي، ولم يكن أحسن حالًا من أبيه، فكان من أبرز أعماله في بداية عهده الاشتغال بالصيد في الوقت الذي كانت الممالك نشطة في الغارات والحروب والاستنجاد بالفرنج!
وقد عايثى المقدسي ﵀ خلافة المستضيء بأمر الله (الحسن بن المستنجد) كان خيرًا من أبيه، ومما حدث وجَدَّ في
عهده: إبطال مظالم كثيرة، وانقطاع الدعوة العبيدية، والحمد لله.
وعاصر المقدسي ﵀ أحداث الملك نور الدين صاحب الشام، وكان ملكًا مجاهدًا، محاسنه جمة في دينه وشجاعته، وغزواته وفتوحاته، ومساجده ومدارسه، وبره وعدله، وقد أبطل المكوس، وأبلى بلاء حسنًا في دك حصون الفرنج والاستيلاء عليها، وله وقائع قتالية واسعة جرت أحداثها سجالًا بينه وبين الفرنج.
وعاصر المقدسي ﵀ صلاح الدين الملك الناصر، الذي رفع راية الجهاد مؤيدًا منصورًا بجيوش المسلمين.
وشهد المقدسي ﵀ عصر خلافة الناصر لدين الله (أحمد بن المستضيء) وقد تميّز عصره لقوة صلاح الدين الملك الناصر (يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب) الذي كان سلطان زمانه، له السيادة والقيادة، أذاق الفرنج الذل والهوان، وهو بحق السلطان المجاهد في سبيل الله، افتتح بسيفه وبإخوانه بلادًا من الموصل إلى اليمن، ومن أسوان إلى طرابلس، فارتفع به المسلمون، ودك حصون الكفرة وأَرْغَمَ أنوفهم في أراضيهم فعز الله به الإسلام والمسلمين، ولا يزال المسلمون إلى الآن ينظرون إلى عصره أنه من العصور
1 / 15
الإسلامية الزاهرة فلا تكاد ترى مسلمًا إلَّا وهو يتمنى عودة مثل هذا العصر الزاهر.
أهم الأحداث التاريخية في عصره:
١ - موقعة الزلاقة في الأندلس: كان جيش المسلمين فيها يقدر بمائتي ألف ما بين فارس وراجل، واجه جيش الفرنج المقدر بمائتين وأربعين ألفًا، وكانت الدائرة في هذه الموقعة على الأعداء ونصر الله جيش المسلمين، فقتلوا مائة وأربعين ألفًا من الفرنج وأسروا منهم ثلاثين ألفًا وغنموا ثمانين ألف فرس ومائة ألف من البغال حتى بخست أثمانها عند بيعها (١).
٢ - ما حَلَّ ببلاد مصر من القحط والوباء المفرط، فخربت الديار وجلى عنها أهلها، كان ذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة، وفي التي تليها اشتد البلاء حتى أكلوا لحوم الآدميين، وأكثر القرى لم يبق بها آدمي، وكان يخرج من القاهرة في اليوم نحو خمسمائة جنازة حتى سجل في ديوان الهالكين نحو مائة وأحد عشر ألف في نحو سنتين (٢).
٣ - وقوع زلزلة بالشام كان من هولها ما لا يوصف، كادت لها الأرض تسير سيرًا، والجبال تمور مورًا، وما ظن الناس إلَّا أنها القيامة جاءت دفعتين، دامت الواحدة مقدار ساعة أو أزيد، وقيل:
_________
(١) دول الإِسلام للذهبي (٢/ ١٠٢).
(٢) المرجع السابق (٢/ ١٠٥، ١٠٦).
1 / 16
إن صفد لم يبق بها سوى رجل واحد، ونابلس لم يبق بها حائط، ومات بمصر خلق كثير تحت الردم.
٤ - ماجت النجوم في بغداد في أول سنة تسع وتسعين وخمسمائة وتطايرت شبه الجراد، ودام ذلك إلى الفجر وضجّ الخلق بالابتهال إلى الله تعالى (١)
حالة المجتمع في عصره:
كما تقدّم لنا ذكر شيء من الحالة السياسية في وقته، والحالة السياسية في كل زمان ومكان تنعكس آثارها على الحالة الاجتماعية سلبًا وإيجابًا؛ لأن السياسة هي البنية الأولى للمجتمع، ولكن في كل زمان لا تخلو طائفة على الحق قائمين يدعون إلى دين الله ويعلمونه وينشرونه في أرجاء المعمورة، وما وَصلَنَا إلَّا بتوفيق الله ثم حماية الأجيال المتوارثة خلفًا عن سلف والجهود الذاتية التي يقوم عليها رجال مخلصون.
الحالة التعليمية:
من المعلوم أن النبي ﷺ قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ... " الحديث، وقد تكفّل الله بحفظ دينه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فيقيض الله في كل زمان جهابذة يتفانون في خدمة دينه ونشره بين البرية، وسواء كان هؤلاء من العلماء العاملين المخلصين، أو الملوك أو التجار، وذلك بقيام العلماء بالتعليم،
_________
(١) المرجع السابق (٢/ ١٠٦، ١٠٧).
1 / 17
والملوك والتجار بالبذل والدعم المادي، ولذلك نلاحظ انتشار المدارس في كثير من الأقطار الإسلامية وكثرة الأوقاف عليها، فكان العلماء في الجانب العلمي رؤوسَ خير، وأعلامَ هدى، وحُرَّاسًا للإسلام من التبديل والتحريف الذي يطرأ عليه من أيدي أعدئه.
مكانته العلمية:
إن إمامنا المقدسي ﵀ بدأ بتكوين نفسه منذ حداثة سنه كما مر علينا في بدايته العلمية ورحلاته، فبدأ أولًا بالأخذ عن علماء بلده، ثم اتجه إلى الأخذ عن علماء الأقطار في زهرة شبابه لينال ما لم يجده عند علماء بلده، ثم بعد هذا ساعدت بعض الأحداث الجسام التي عاصرها وحدثت في وقته فساعدت على صقل شخصيته فانجبت عالمًا فذًّا كما سنتحدث عنه في ألقابه العلمية وثناء العلماء المعاصرين عليه، وتصانيفه من أكبر الأدلة على علمه، فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
ما قيل عنه في حفظه:
قال الحافظ الضياء: كان شيخنا الحافظ لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلَّا ذكره له وبينه وذكر صحته أو سقمه، ولا يسأله عن رجل إلَّا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكر نسبه، وأنا أقول "أي الضياء": كان الحافظ عبد الغني أمير المؤمنين في الحديث. قال الضياء: وشاهدت الحافظ غير مرة بجامع دمشق يسأله بعض الحاضرين وهو على المنبر: اقرأ لنا أحاديث من غير أجزاء، فيقرأ الأحاديث بأسانيدها عن ظهر قلب.
1 / 18
ألقابه وثناء العلماء عليه:
إن كل عالم مخلص سيذكر ما شاهده في شخصية عاصرها وذلك حفظًا للأمانة وخدمة لمن سيأتي بعد هذا الزمن، وكذلك العلماء العاملين يهتم الناس المعاصرون لهم بدراسة أحوالهم واعطاء صورة واضحة لمن يجهلها في الأجيال المعاصرة والقادمة، وممن نال نصيبًا وافرًا من ذلك: الإِمام المقدسي، فقد لُقِّبَ بألقاب علمية مع ملازمة ثناء العلماء عليه.
فقد وُصف بالحفظ والتصنيف، وفي هذا دلالة على فهمه وذكائه، كما اهتم مَنْ كتب عنه بذكر جانب كبير يحتاج إليه العلماء
في كل زمان ومكان، وهو محاربة البدع والقيام على أهلها بالإِنكار، حتى ثارت عليه المبتدعة وأهدروا دمه، فلم يكترث بشئ من ذلك ولم يقم له إحساس بهم، ولا زال على ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكان لا يرى منكرًا إلَّا غَيَّرَهُ، وهذا يدله على شجاعته وصلابة شخصيته، ولا ننسى مع هذا أنه كان سمحًا متواضعًا وكريمًا لا يدخر شيئًا من ماله، حتى قيل: كان يخرج في الليل بقُفّة الدقيق ويتجه بها إلى بيوت المعوزين، ويطرق الباب، فإذا فتحوا ترك ما معه ومضى؟ لئلا يعرف، وربما كان عليه ثوب مرقع ومع ذلك فكان ملازمًا للصيام والصلاة فقد قيل: إنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن، وربما لقن الحديث، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبيل الظهر فينام نَوْمَةً، فيصلي الظهر ويشتغل بالتسميع أو النسخ إلى المغرب فيفطر إن كان صائمًا ويصلي إلى العشاء، ثم ينام إلى نصف الليل ثم يصلي إلى الفجر.
1 / 19
قال ابن النجار في تاريخه: حدث بالكثير وصنف في الحديث تصانيف حسنة وكان غزير الحفظ من أهل الإِتقان والتجويد ... إلخ. وقال ابن الدبيثي في تاريخه: وكان زاهدًا عابدًا أمارًا بالمعروف نهّاءً عن المنكر، أثنى الحفّاظ والأئمة على فهمه وحذقه وحفظه، وأثنى الذهبي عليه، فقال: الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق العابد الأثري المتبع.
المحنة التي مرَّ بها الحافظ:
قال ابن كثير في البداية والنهاية (١٣/ ٣٩) في ترجمته: (ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك وأرادوا هلاكه، فخرج منها مختفيًا في إزار، ولما دخل الموصل في طريقه سمع بها كتاب العقيلي في الجرح والتعديل فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضًا خائفًا يترقب فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة فحصل له قبول من الناس جدًّا وانتفع الناس بمجالسه كثيرًا، فوقع الحسد عند المخالفين من أهل دمشق فجهزوا الناصح الحنبلي فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه حتى يشوش عليه، فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر فذكر يومًا عقيدته فثار عليه القاضي ابن الزكي وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم
1 / 20