كذلك يقرأ الصديق الأسيف صحائف لم تقع عليها عين غير تلك التي أطبقت إلى الأبد. وإذ يتثبت من خلوها مما يعبأ به العالم يحملها بيد مرتجفة ويلقيها في النار، فيضم اللهيب وديعته هنيهة ولا يطول حتى ينقلب وإياها رمادا.
لقد نجت الصفحات التالية من مثل هذا المقدور. ولم يكن يراد في البدء سوى إذاعتها بين خلان الصديق الراحل. أما وقد وجدت أصدقاء بين الغرباء فهي جديرة بالانتشار في العالم الوسيع. وكان يود ناشرها إظهارها على صورة أتم إلا أن الأوراق بالية في الأصل لا يتيسر نشرها بحذافيرها.
الفصل الأول
الذكرى الأولى
للطفولة أسرار ومميزات ولكن من ذا الذي يستطيع وصفها! من ذا الذي يستطيع تعليلها، لقد اجتاز كل منا ذلك العمر الذي تشبه ذكراه ذكرى غابة هادئة مسحورة، وخبر يوما فيه فتح عينيه المملوءتين بدهشة السعادة على سناء الحياة الجديدة الفائضة في روحه. يومذاك لا ندري أين نحن ومن نحن: بل العالم كله يخصنا ونحن ملك العالم بأسره. حياة تخال دائمة بلا بداية ولا نهاية لا هم فيها ولا ألم. القلوب عندها صافية كسماء الربيع، عذبة كعرف البنفسج، مطمئنة قدسية كصباح أيام الأحد.
ماذا يطرأ على الطفل فيقلق فيه هذا السلام الإلهي، وكيف تنتهي تلك الحياة المشبعة سذاجة وطهارة؟ أي العوامل يحول معاني كيانه، ويميت فيه الشعور بالاتحاد والتضامن؟ أي العوامل يعلمه تمييز المفرد من الجمع، فينتبه ليجد نفسه في معترك الحياة وحيدا كئيبا؟
لا تقل، يا ذا الوجه العبوس، إن ذلك العامل هو الخطيئة! أو هل يجني الطفل إثما ويقترف ذنبا ؟ بل حري بك أن تعترف أننا لكل شيء جاهلون وإنه ما علينا سوى الاستسلام والامتثال.
أهي الخطيئة التي تنبت البذرة زهرة، وتنضج الزهرة ثمرة، ثم تفنى الثمرة وتذرها هباء؟
أهي الخطيئة التي تحول الحشرة دودة وتجنح الدودة فراشة، وتذر الفراشة هباء؟
أهي الخطيئة التي تسير الطفل رجلا، وتشعل منه الرأس بشيب الشيخوخة، ثم تهمد الشيخ جثة، ثم تذر الجثة هباء؟
Página desconocida