فضضت الكتاب فوجدت فيه ذلك الخاتم المنقوش عليه «كما يشاء الله» وكانت أعطتنيه في طفولتي ثم رددته إليها، وكان ملفوفا بورقة كتبت عليها الكلمات التي فهمت بها ساعتئذ: «كل ما لك هو لي. خاصتك ماري.»
جلست وجلس الطبيب وغرقنا في بحران عقل يعرفه كل من فوجئ بيأس لا رجاء بعده. أخيرا نهض الشيخ ومسك بيدي قائلا: «نحن نلتقي اليوم للمرة الأخيرة: أما أنت فعليك أن تغادر المكان، وأما أنا فأيامي معدودة. غير أني أود أن أبوح لك بسر حملته دفينا في صدري طول الحياة ولم أطلع عليه أحدا، والآن بي حاجة ماسة إلى إفشائه، فاصغ إلي. إن الروح التي فارقتنا روح شريفة طاهرة والقلب الذي غادرنا قلب صادق عميق. عرفت قلبا آخر كهذا وروحا كهذه الروح، بل أبهى منها، هي روح والدتها. عرفت والدة هذه الفتاة قبل زواجها فأحببتها وأحبتني. كنا فقيرين فأنشأت أجد وأكد لأنتشلها من مخالب العوز والفاقة ولأصل إلى مكانة اجتماعية تليق بي وبها. وقبل أن أدرك غايتي اجتمع بها الأمير الشاب وأحبها. ولما رأيت أمير بلادي مولعا بها يبذل ما في وسعه ليعلي شأنها ويرفعها، هي اليتيمة البائسة، إلى مرتبة الإمارة، شعرت بوجوب تضحية سعادتي لأجلها لأن حبي لها كان أقوى من حبي لنفسي، فغادرت البلدة وتركت لها خطابا فيه حللتها من وعودها. ولم أرها بعد ذلك إلا وهي على فراش الموت عقب ولادة ابنتها هذه. يمكنك بعد هذا الإقرار أن تدرك مقدار حبي لحبيبتك وإني إنما كنت أحاول إطالة عمرها يوما فيوما لأنها كانت الشخص الوحيد الذي يربط قلبي بالأرض. والآن! سر في طريقك يا بني واحتمل الحياة كما احتملتها، ولا تصرف يوما واحدا في الغم العقيم. ساعد ما استطعت المحتاجين من إخوانك البشر، وأحببهم جميعا، واشكر الله الذي أنعم عليك في هذه الحياة الجرداء بقلب كقلبها، وحب كحبها، وروح كروحها، وإن فقدتها»!
فقلت ممتثلا: «كما يشاء الله.» وافترقنا افتراقا لم يكن بعده من لقاء. •••
لقد مرت الأيام والأسابيع والشهور والأعوام سابحة في بحر الأبدية. وطني صار لي أرضا غريبة وبلاد الغرباء أصبحت وطني. لكن حب فتاتي لا يزال حيا في. وكما تسقط دمعة القلب على مياه البحار كذلك غرق حبي لها في بحر حبي للإنسانية بأسرها؛ حبي الذي يشمل ملايين من أولئك الغرباء الذين لا يعرفونني وقد شغفت بهم منذ حداثتي. •••
إنما في أيام الصيف الساكنة الحارة كهذا اليوم، عندما أخلو بالغابة الخضراء في حضن أمي الطبيعة، وتتوه بي أفكاري فلا أعود أدري ما إذا كان في العالم أناس غيري أم أنا وجدت وحدي على الأرض، ذاك تحدث حركة في مقبرة حافظتي وتنهض الذكريات السحيقة من مدافنها، وترجع قوة الحب القديم قابضة على فؤادي بشدة، فأنادي تلك الفتاة الجميلة، فتأتي إلي وتحدق في مرة أخرى بعينيها العميقتين اللتين لا قرار لهما. عندئذ يتجمع حبي للإنسانية ويتجسم في حبي لشخصها، لشخص ملكي الحارس، فتخرس أفكاري وتجثو عواطفي أمام سر الأسرار الغامض، سر الحب المتناهي وغير المتناهي.
Página desconocida