Ibrahim Segundo
إبراهيم الثاني
Géneros
فيسألها: «كيف؟ ماذا تعنين؟»
فتقول: «إن حياتى مثلا تجرى فى مجرى سلس. ولكن صادقا وأضرابه يحدثون فيه اضطرابا شديدا».
فيقول لها: «إنى إنما أحاول أن أريك الجانب الذى ينبغى أن تنظرى إليه حين تتدبرين هذا القريب المثير. إنه لم يجد من يصقل له جانبه الخشن أو يقلم له أظافر الوحشية الكامنة فى نفوسنا، وفى وسعك أن تفعلى ذلك بأن تبدى له صفحة الود والتقدير. إنك بذلك - لا بالنفور والتحقير - تستطيعين أن تظهرى وتنمى بذور الخير والفضيلة فى نفسه، وثقى أن فى نفسه - فى نفس كل إنسان - بذورا كثيرة للخير. ولكن صادقا لم يلق من يعينه على معرفة نفسه، ولقى، على العكس، من يستفزه، ويحنقه، ويستثير شر ما فى نفسه، بالتحقير والنفور والسخط والانصراف عنه يأسا منه، والقول أبدا أنه خائب لا خير فيه ولا أمل ... امنحيه ودك يا ميمى وانظرى ماذا يكون منه ... امنحيه الثقة على الخصوص، فإن ظمأه إليها - تلهفه عليها - أعظم مما تتوهمين. صدقينى.. إن إيلاءه الحب والثقة خليق أن يجعل منه إنسانا جديدا.. جربى.. عرفيه بنفسه المطوية.. أديرى له عينه فيها ... افتحيها له عليها ... لا تجعلى بالك إلى ثرثرة لسانه بما دفعه جهل الناس وسوء سيرتهم معه إلى اللغط به. فإن هذه الثرثرة ليست منه إلا من قبيل الدفاع عن النفس ... أهله جميعا يستخفون به، ويحقرونه، وينفضون أيديهم منه، ولا يرونه جديرا بأدنى عناية، أو أضأل حظ من الثقة. كفروا به جميعا، فهل يلام إذا ثار، وتمرد، وكفر هو أيضا بهم وبما يمثلون مما أغروه بكرهه؟ ولا تقولى إنى أنصفه دونك.. فإنى أنصفك أيضا.. أنت تظلمينه وأنا أحاول أن أريك كيف تنصفينه وترفعينه إلى منازل الكرامة والشرف والفضيلة عندك. فإذا استطعت هذا - وأنا واثق أنك تستطيعين - فإن هذا يكون انتصارا لك.. فماذا تبغين من الإنصاف أكثر من هذا؟»
وقد أطاعته ميمى فكفت عن مجافاة صادق. ولكنها ظلت تخشاه فى قرارة نفسها، وإن كانت تكتم هذا ولا تبديه ولا تدعه يظهر على وجهها أو فى سلوكها معه. وفرح صادق بهذا التحول من ميمى إلى محاسنته، فسلس قياده فى يدها، ولكنه طمع أيضا، أو على الأصح زاد طمعه فيها، فكان أحيانا ينظر إليها وكأنه يريد أن يأكلها، فتفزع وتعانى مشقة عظيمة فى كتمان ما يساورها من الخوف وتستعين على التجلد والتشدد بما قاله إبراهيم. وكانت ثقتها به كبيرة واطمئنانها إلى حكمته وسداد رأيه عظيما، بل تاما، فوطنت نفسها على أن تروض هذا الحيوان وأن تكون له أما رءوما، وإن كانت ربما حدثت نفسها أن ما لها هى. ولم يكن عندها جواب لذلك، سوى أنه يطاردها، وإن الصد والنفور لم تعد لهما أى جدوى، فما هو بالذى يصده شىء، فلعل الرفق يكون خيرا، وعسى أن تكون الحسنى أرد عائدة.
وطمأنها قليلا أنها استطاعت ذات ليلة أن تقنعه - على ما بدا لها - بأن يدع ذكر الحب واللغط به، وأن يقنع منها بالصداقة. وقد سخر فى البداية من هذه الصداقة التى تعرضها بديلا من الحب، ولكنها لطفت به، ولم تزل تحاوره وتداوره، حتى سكن وأمسك، ثم أظهر لها الرضى والاقتناع، وقال بابتسامة لم تخل من سخره المعهود: «ألا تعطيننى عربونا لهذه الصداقة التى جملتها فى عينى؟»
ولمحت السخر الذى فى عينه، وتوجست شرا من نبرة صوته، ولم تكن عبارته مما يبعث الاطمئنان، ولكنها تشددت وتحاملت على نفسها، وآلت لتمضين فى التجربة إلى نهايتها المقدورة، ومالت عليه فلثمت جبينه، فرفع إليها فمه وقال: «هنا موضع التقبيل ... ثم ألسنا قد صرنا صديقين؟» فامتقع وجهها وحدثت نفسها بأن هذه التجربة «الإبراهيمية» قد تؤدى إلى كثير لم يكن فى الحسبان، ولكنه أدهشها بوداعته وقناعته، فلم يحاول إطالة القبلة، ولم يهم بالضم والعناق، وارتد عنها مغتبطا ومضى إلى الباب. ثم كأنما أبى إلا إزعاجها وإقلاقها فقال ويده عليه: «لا أدرى من أشكر على هذه القبلة الأخوية. وأكبر الظن أنى مدين بالشكر للأستاذ ...».
ولم يفته تغير لونها عند ذكر إبراهيم، فقال: «اشكريه عنى من فضلك إذا لقيته قبلى». وتركها مبلبلة موسوسة.
الفصل الثانى
1
لم يكن إبراهيم حين استقر رأيه على الزواج من تحية يعرف قبل ذلك بدقائق - أى نعم بدقائق - أنه سيتزوجها، أو ينوى ذلك، أو يفكر فى زواج.
Página desconocida