وفي دمشق، إحدى مدائن العلوم الكبيرة في ذلك الزمان، نشأ أحمد وترعرع، ثم درس ونضج، حتى بلغ أشده وأتاه الله العلم والحكمة، وصار أحد الأئمة الأعلام، ومن كبار شيوخ الإسلام الذين خلدوا على الزمن بفضل ما قاموا به من جلائل الأعمال وما خلفوه لنا من عظيم الآثار.
ولا عجب أن ينبغ الفتى أحمد بن عبد الحليم، فقد وفر العليم الحكيم له كل عوامل الفوق والنبوغ ومؤهلاته: وراثة طيبة عميقة الجذور، بعيدة الأصول، سامقة الفروع، وبيئة علمية أوفت على الغاية، وقوى عقلية وذهنية بلغت حد العجب والإعجاب بها حتى صار فريد عصره.
استقرت الأسرة إذن بدمشق الفيحاء، وفي كتاب من كتاتيبها حفظ ابن تيمية كتاب الله وهو حدث ولم ينس شيئا منه حتى قضى نحبه؛ إذ كان سريع الحفظ جدا بطيء النسيان، حتى ليقال إنه لم يحفظ شيئا من قرآن أو حديث أو علم ثم نسيه، شهد له بذلك تلاميذه ومعاصروه، ومنهم من كانوا من خصومه المعروفين.
ثم أخذ في الدرس وطلب العلم، وعاش متبتلا له طول حياته حتى بلغ منه الغاية، وبز معاصريه وشآهم وجاوز أقدارهم جميعا؛ كل ذلك في عفة وتدين ومروءة وأخلاق فاضلة مرضية تحدث بها الجميع، وقول للحق في قوة حتى لا يخاف في الله لومة لائم.
ويذكر ابن الوردي
5
أنه بعد أن تعلم الخط والحساب وحفظ القرآن في المكتب، أقبل على الفقه والعربية وبرع في النحو، ثم أقبل على التفسير إقبالا كليا حتى سبق فيه، وأحكم أصول الفقه؛ كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة. فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه، ونشأ في تصون تام وعفاف وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل.
وكان يحضر المحافل في صغره، فيناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحيرون منه، وأفتى وله أقل من تسع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف. مات والده وله إحدى وعشرون سنة، وبعد صيته في العالم فطبق ذكره الآفاق، وأخذ في تفسير القرآن أيام الجمع في المسجد من حفظه، لا يتوقف ولا يتلعثم.
وكان للشيخ خبرة تامة بالرجال رواة الحديث، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال إن كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله؛ غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي!
ثم يقول ابن الوردي: «وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات للاستدلال بها قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه بين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويكتب في اليوم والليلة - من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين،
Página desconocida