Hijo del Sultán: y otras historias
ابن السلطان: وقصص أخرى
Géneros
وسرنا معا نطوف بالغرف، إلى اليمين غرفة مظلمة فيها ولدت في الساعة التي ينحسر فيها قناع الظلمة عن وجه الفجر، لم أملك أن أطأها بقدمي، اكتفيت بأن واريت الباب ونظرت من خلاله؛ كان هناك ثمة أثاث متروك، يرقد مثل حطام رجل عجوز مقعد. وعبرنا ممرا ضيقا، وطلعت على سلالم لا أذكر عددها، واستوثقت من مواضع قدمي. كنت أسير في بيتي - لا شك في ذلك - فها هي أمي تسير إلى جانبي، وفي يدها شمعة أهتدي بها وكأنني أضرب في قصر التيه، وأسأل عن كل شيء. كنت أهتدي مع كل خطوة إلى شعوري المفقود، وأعيد بناءه. وكانت ذاكرتي كهذه الغرف المظلمة؛ فأنا أدع شعاع النور ينفذ إليها. قالت لي أمي هامسة : «هس! أخفض صوتك.» ونظرت حوالي. كان ثمة باب مفتوح، ورجل عظيم ممدد على سرير نحاسي أصفر، يتصاعد شخيره العالي، وتحرس جسده شمعة. قالت لي أمي: إنه أبوك، انظر إليه. ونظرت، كان مثل بطل عظيم من أبطال أثينا. وفي الجانب البعيد من السطوح كانت غرفة صغيرة، قلت في نفسي: لا شك أن هذه هي غرفة الدجاج والبط، فهرعت إليها وأنا أغالب ضحكي، ولكن أمي لحقت بي كأنما فررت من يديها، ووجدتها تصرخ في أعماق الليل: لا تقترب ... بالله عليك لا تقترب منها!
جمدت حركتي أمام الباب الخشبي كتمثال من الشمع. إنه مغلق بقفل حديدي ضخم، والصمت يحرسه. ولم أكد أسأل أمي التي أبعدتني عن الباب حتى سمعنا الباب الخارجي يفتح، ووقع أقدام على السلالم الخشبية. من الطارق الجريء يا ترى؟ وأمي لا تجيب، إلا من بسمة غامضة فوق شفتيها الذابلتين. أنا إن كنت في وعيي، فأنا أعرف أهلي تماما؛ فالباب الخارجي مكتوب عليه اسم أبي، على لافتة نحاسية كبيرة، وأمي تقف إلى جانبي، ولا يمكن أن تكون امرأة أخرى تشبهها، فهكذا عرفتها من قديم، ودمي يحدثني بأنها أمي. نعم! لا يمكن أن يكون ما أراه وهما، وأنا أعرف أن لا أحد يسكن بيتنا غيرهما؛ فأنا ابنهما الوحيد. من الطارق الجريء يا ترى؟ أما أنا فجريت إلى السلم، واستندت على سوره الأعلى. كان شبح امرأة يتدحرج صاعدا على السلم، وحين وصلت إلى الدرجة التي أقف عليها مددت ذراعي نحوها، أردت أن أقول لها من أنت، أردت أن أتملى في وجهها لأعرف من الغريب، لكنها لم تحاول حتى أن ترفع وجهها لتراني؛ فقد مرت من أمامي صامتة كما دخلت. عبرت بأمي التي قالت لها: هل عاد زوجك؟ والمرأة تجيبها: لم يعد بعد، سوف يأتي في قطار الغد. ثم سارت إلى غرفتها، ففتحت قفلها، وأغلقت الباب من خلفها، وأضاءت المصباح.
أما أمي فتناولت يدي وهبطت بي درجات السلم، وحين جلسنا معا في الغرفة المواجهة لغرفة أبي قالت لي: أنت الذي فعلت كل هذا؟ - ولكني لا أعرفها، الذنب ذنبك.
وأطرقت لحظة رفعت رأسي بعدها وقلت: من هذه المرأة الغريبة؟
وكان أن عرفت منها كل شيء؛ تذكرت المرأة التي طرقت بابنا ذات يوم طرقا وحشيا، ففتح لها أبي، وسمعته يهدر في وجهها ويقول أن ليس لديه لها عمل، وجريت لأرى المشهد: امرأة تكاد أن تكون في سن الشيخوخة، راكعة على قدمي أبي، تطلب منه عملا، لها عينان زائغتان، ووجه بارز العظام، ويدها اليسرى مشلولة فهي تترنح على الدوام. أما أمي فكانت جالسة أمام الفرن تصنع لنا الخبز، واللهب في طاقاته يئز أزيزا، والعرق يتصبب من وجهها الأحمر. وأسرعت تهدئ من ثورة أبي. وكان أن دخلت هذه المرأة الغريبة بيتنا، خادما تساعد أمي التي كانت ما تزال وحيدة، لا تجد أحدا يعاونها.
وتذكرت هذه المرأة التي ما كادت تدلف من الباب، وتجلس قبالة أمي، تناولها العجين حتى انتابها شيء عجيب: جحظت عيناها فانبعث منهما بريق عجيب، وارتعشت أطرافها، وتقلص جسدها كله، حتى حسبنا أن الأرض زلزلت من تحتها، ثم ارتمت على الأرض باكية صارخة، وظلت تتقلب على جنبيها، وتتمرغ على الأرض، وتعفر وجهها بالتراب، وتحفر الأرض بأظافرها. كانت تتقلص وتتخلج، ويتصلب جسدها كأنه لوح من الخشب. وكان يخرج من فمها صوت مبهم كأنه عواء كلب. أما أمي فقد أصابها دوار، واتسعت عيناها، وأما أبي فحاول أن يلقي على المرأة الماء البارد عساها أن تفيق، وأما أنا فقد عرفت فيما بعد، حين تعلمت في الجامعة، أن المرأة كانت مصابة بالصرع، وأنه لم يكن لهذا المرض من شفاء. ورحمنا هذه المرأة حين أفاقت من غشيتها، واحترسنا منها حين كانت تعاودها النوبة القاسية مرة في الأسبوع أو في الشهر وتعودنا على هذا المشهد الغريب منها حين تضرب الأرض، وتأكل التراب، وتعض جسدها، ولم يعد لنا من هم إلا أن نبحث لها عن الشفاء.
أما العجائز من النسوة، اللاتي استشارتهن أمي فقد وصفوا لها أخلاطا عجيبة من الدواء، فلم تفلح. والعرافون الذين لجأنا إليهم نظروا في فناجينهم، وحضروا العفاريت، وأخذوا الأثر ، والنوبة لا تنفك تلح على المرأة العجوز، التي صرت أحبها كأمي.
وأما أنا فخطرت على بالي الفكرة الهائلة، وما لبثت أن نفذتها في الحال. لا أدري حتى اليوم كيف طرأت على ذهني، ولا أعرف حتى الآن في أي كتاب قرأتها، مع أنني لم أكن قد قرأت فرويد ولا سمعت باسمه. لم أكن غير صبي شقي، تخطر على ذهنه الفكرة فلا يستريح حتى ينفذها: ليس للمرأة إلا سبيل واحدة للشفاء، فلم أتردد.
تسللت ذات صباح إلى المرأة العجوز، وكانت تكنس الحجرات. اقتربت منها وقلت لها: أم الخير، لماذا لا تتزوجين؟
رفعت رأسها، وثبتت عينيها المفتوحتين في السماء، وارتعشت يدها المشلولة رعشة شديدة، فأعدت عليها السؤال، ولكنها لم تجب، بل لن أنسى قط - وأنا الآن رجل عجوز - أنها بكت أمامي؛ فقد عجبت كيف يمكن لمثل هذه المرأة أن تعرف البكاء.
Página desconocida