بقي علينا أن نقول كلمات قليلة عن كتاب يظهر أنه كثير الإمتاع إذا ما حكم عليه بعنوانه، وأنه كذلك بمقصده لا ريب، ولكن مع كون مطالعته تخيب الأمل بعض الشيء؛ أي إننا نريد أن نتكلم عن رسالته في «اتفاق آراء أرسطو وأفلاطون». والواقع أن الفارابي لا يعتقد وجود فلسفات كثيرة كما أشرنا إليه سابقا، بل يرى وجود فلسفة واحدة، وهو لا يسلم - مبدئيا - بوجود اختلاف بين آراء معلمين يونانيين، ولا مراء في أن من عقائد ذلك الزمن التقليدية أن فلسفاتهما تتفق، بيد أن كثيرا من العلماء المعاصرين لمؤلفنا اعتقدوا، إذ درسوا آثارهما الصحيحة أو المختلفة، أنهم يلاحظون عدم وجود هذا الاتفاق في كثير من المسائل، فإلى هؤلاء وجه الفارابي جوابه في هذه الرسالة.
وأول ما يحقق الفارابي، كون أفلاطون وأرسطو قد أدركا الفلسفة على وجه واحد، كعلم الموجودات وأحوالها؛ فاتفق جميع الناس من مختلف اللغات على وضعهما على رأس الفلسفة؛ ومن ثم يجب أن يتفقا، وهذا هو الرأي التقليدي كما هو واضح، ثم يشير الفارابي - من الناحية المنطقية - إلى بعض أسباب ما يمكن من خطأ في تفسير آثارهما. وكان، بين الاختلافات التي ينبه إلى وجودها بين أفلاطون وأرسطو ما يأتي، وهو: أن أفلاطون كان بمعزل عن الأمور الدنيوية، على حين كان أرسطو يحبها، فيبحث عن الثراء والمراتب السنية، وأن أفلاطون كان يتكلم بالرموز والأساطير، فيطالب بصفاء القلب لفهم كتبه، على حين كان أرسطو يصنف الأفكار ويرتبها، فيوضحها لاستعمال الجميع، وأن أفلاطون جعل على رأس الجواهر أفضلها وأقربها إلى الروح، وأبعدها من الحسيات، على حين ذهب أرسطو إلى أن الأفراد كانت أول الجواهر، وهذا فرق بسيط في وجهة النظر على رأي الفارابي، وأن أفلاطون بدا - في بعض عبارات من كتاب طيماؤس - غير قائل بضرورة وجود نتيجة للقياس المنطقي، الذي تقوم مقدمتاه على: «الوجود أفضل من لا وجود، والأفضل تشتاقه الطبيعة أبدا»، على حين يرى أرسطو ضرورة وجود نتيجة لمثل هذا القياس المنطقي، وذلك من غير قول عن وجود اختلافات أخرى حول فصول الطبيعيات والمنطق والسياسة.
ويحل الفارابي المناقضات المذكورة ببراعة، وذلك من غير إبداء رأي أصلي، يستحق أن نقف عنده، ولكنه من حيث نظرية المعرفة يفسر فرضية التذكر الأفلاطوني تفسيرا اختباريا جديرا بالذكر، فقد قال: إن أرسطو بين في كتاب «التحليلات» أن المعارف لا تأتي إلى النفس إلا بطريق الحواس. وهكذا فإن المعارف تأتي في البداءة من غير أن يبحث عنها، ولا يكون العلم تذكرا، ولكنه متى شعر بالعلم كان هذا بعد تكون معارف في النفس على وجه غير محسوس؛ ولهذا فإن النفس حينما تدرك هذه المعارف تعتقد أنها دائمة فيها، ويساورها وهم في أنها تذكرها. ومع ذلك فإن الحقيقة هي «أن العقل ليس هو شيئا غير التجارب، وكلما كانت هذه التجارب أكثر كانت النفس أتم عقلا ... وهذا ما قاله أفلاطون: إن التعلم تذكر، وإن التفكر هو تكلف العلم، والتذكر تكلف الذكر، والطالب مشتاق متكلف، فمهما وجد مهما قصد معرفته طلب دلائل وعلامات ومعاني ما كان في نفسه قديما، فكأنه يتذكر عند ذلك.» ويجب أن يعترف بأن هذه محاولة في التوفيق تقضي جرأتها بالعجب.
وأما مسألة قدم العالم، فقد قال الفارابي عن معاصريه إنهم يرون أن أرسطو كان يعتقد قدم العالم، وأن أفلاطون كان على عكس ذلك، ولا يسلم الفارابي بأن أرسطو كان على هذا الرأي، وإنما يزعم أن هذا الاعتقاد عزي إليه بسبب مثال ورد في كتاب الجدل، وبسبب قضية جاءت في كتاب السماء. فرأي أرسطو الحقيقي يقوم على أن الزمان هو تعداد حركة الفلك، وأنه يحدث بهذه الحركة؛ ولذا فقد اضطر إلى القول بأن الخالق أظهر العالم بلا زمان دفعة واحدة، وأن حركة العالم أحدثت الزمان.
وأما بقية الرسالة فلا قيمة لها عندنا تقريبا؛ وذلك لأن النظريات التي عزيت فيها إلى أرسطو مستخلصة من الكتاب المختلق الذي عنوانه «إلهيات أرسطو».
والآن يرى - كما أرجو - ما غزارة أثر الفارابي وإبداعه، ما هذا الأثر الذي يشتمل على قضايا لا نحمل نفسنا حلها، لما لا نرى في أنفسنا من الجرأة ما كان عليه فيلسوفنا حيال نماذجه اليونانية. والواقع أن الفارابي - الذي كان اختباريا، صوفيا، سياسيا، زاهدا، منطقيا، شاعرا - ذو طبع قوي غريب. وعندي أنه أكثر جاذبية من ابن سينا؛ لأنه كان أكثر منه حرارة باطنية وقدرة على الصولة المفاجئة والضربات الأقل توقعا، ولفكره من الوثبات ما للشاعر الغنائي، وهو حاد في جدله بارع متضاد، ويتصف أسلوبه بمزية الإيجاز والعمق النادرين، ويسمو هذا الأسلوب بضرب من الرونق الشعري.
ونرى أن الفارابي قام بخدمة عظيمة في دراسة الفلسفة لا ريب، ولكن مع وثوبه فوق المعضلة السكلاسية.
ويلوح أنه - بدلا من أن يبحث عن توفيق عقلي متين بين العنعنات اليونانية وعلم الكلام الإسلامي - اقتصر على جمع غير ملتحم الآراء تماما، محتفظا لنفسه بكشف الرابطة الغامضة في ربى التصوف.
ولا جرم أن لقب الموسوعي يلائم كلا من الفلاسفة الذين تكلمنا عنهم. والواقع أنهم كانوا موسوعيين، سواء بطبيعة ذهنهم أم بطبيعة آثارهم. ومع ذلك فإننا - بوضعنا هذا العنوان على رأس هذا الفصل - قصدنا على الخصوص جماعة من الفلاسفة الموطئين الناشرين، أخذت على نفسها بكل صراحة أن تقوم بوضع موسوعة للعلوم صالحة لاستعمال الجمهور؛ أي إننا نقصد الكلام عن «إخوان الصفا». وبما أن إخوان الصفا كانوا موطئين - ضبطا - فإننا لا نعلق أهمية كبيرة عليهم، وسنلزم جانب الاختصار في شأنهم. وفضلا عن ذلك، فإن مما يشجعنا على هذا الاختصار في هذه الحال كون أحد مستشرقي الألمان، وكنا قد ذكرنا اسمه، وهو فردريك ديتريسي، قد خص هؤلاء الفلاسفة بسلسلة من الكتب المفصلة، تؤلف علما جامعا من الآداب.
18
Página desconocida