والفارابي في السياسة هو ما يمكن تسميته ملكيا إكليرسيا؛ فرأيه يقوم على وجوب حيازة الناس لحكومة ملكية وعقيدة دينية، ويمكن نظامه الملكي - من ناحية أخرى - أن يتحول إلى جمهورية أرستوقراطية بغتة. ويلاحظ فيلسوفنا أن أكمل دولة هي التي تشتمل على جميع الأرض المعمورة، وذلك بعد أن وضع - كما صنع أفلاطون - مبدأ قائلا: إن الناس خلقوا ليعيشوا في مجتمع. ويمكن هذا الرأي - القائل بحصر جميع الأرض ضمن نظام سياسي واحد - أن يلقي الحيرة في نفوس بعض القراء، ولا غرو، فقد تعودنا الاعتقاد بأن مثل هذه الفكرة لم تستطع أن تنبت في بعض النفوس إلا بعد أحدث تقدم، وأنها لا تعبر عن شيء غير الحد الممكن البعيد من التطور السياسي في العالم.
وليس الأمر كذلك؛ وذلك أنني - من غير أن أذكر أن فكرة الشمول السياسي كانت سائدة للمبدأ الإمبراطوري الروماني، ثم للمبدأ الكنسي الكاثوليكي - أكتفي بأن أصرح، وأنا سائر، بأنه كان - أيضا - ضمن مبدأ الحكومة الدينية الإسلامية، وأنه كان منتشرا في القرون الوسطى الشرقية أكثر مما يحاول تصوره بمراحل. ومع ذلك، فإن الفارابي لم يقف هناك، وإنما اقتصر على وصف نظام كامل للمدينة، ولم يخل بيانه من سذاجة، وذلك أن المدينة التي يطلعنا عليها هي مدينة قديسين يقوم بإدارتها حكماء ؛ ومن ثم تظهر هذه المدينة نموذجا قليل الصلاح للتطبيق العملي، ومن يرد أن يشعر بما هو جميل في نظريته فعليه أن يوصلها كما صنع هو، بنظرية العالم العامة.
وكما أن العالم كل منسجم منظم تحت سلطان الله الأعلى، وكما أن النجوم والعالم الأرضي آخذ أحدهما برقاب الآخر ويتبع أحدهما الآخر، وكما أن النفس البشرية مؤلفة من درجات متوالية من العقل أوضحناها منذ قليل، وكما أن الجسم البشري كل منظم يسيطر عليه القلب، فإنه يجب أن تكون المدينة كلا منظما تنظيما مشابها لهذه النماذج الكريمة.
وينصب في المدينة سلسلة من الحكام، يسودها رئيس عال. ويلوح أن الصفات التي يطلب الفارابي وجودها في هذا السيد مفرطة بالحقيقة؛ فهذا الرئيس «الذي لا يرأسه إنسان آخر»، هذا الإمام الذي هو سيد المدينة الكامل، والذي يجب أن يكون - كما يقول الفارابي غير مرة - «رئيس المعمورة من الأرض كلها»؛ لا بد من اتصافه بالخصال الآتية؛ أي أن يكون: جيد الفهم، جيد الحفظ، حسن العبارة، محبا للتعليم، غير شره، كبير النفس، محبا للعدل، صعب القياد، قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل.
ومع ذلك، فإن هذه هي عين الخصال التي يطلبها أفلاطون من حكامه، بيد أن الفارابي يشك - بعد أفلاطون - في اجتماع هذه الفضائل الكثيرة في رجل واحد فيحل هذه المشكلة ببراعة ساذجة، وذلك أنه يقول: إن هذه الخصال إذا لم توجد في رجل واحد، فاجتمع بعضها في رجل، واجتمعت الأخرى في آخر نصب هذان الرجلان على رأس المدينة، وإن هذه الخصال إذا لم تجتمع في غير ثلاثة رجال جعل هؤلاء الثلاثة على رأسها، وإنها إذا لم تجتمع إلا في أكثر من ثلاثة جعل من اجتمعت فيهم على رأسها، وهكذا فإن نظامه يؤدي إلى الجمهورية الأرستوقراطية.
ونمتنع عن تلخيص «ما بعد الطبيعة» لدى الفارابي؛ وذلك أن النظريات الأساسية التي تتألف منها - أي النظريات عن واجب الوجود، وانبثاق الكثرة وسلسلة الموجودات - غير خاصة بهذا الفيلسوف حصرا، وسوف نتفرغ لدراستها - فيما بعد - تحت إشراف ابن سينا ، الذي عرضها بإيضاح بديع، وأهم من هذا لدينا أن نعين نهج الفارابي بإظهارنا كيف أن لهذا النهج في جميع أجزائه الجوهرية تقريبا مناحي ونتائج صوفية.
فللسياسة - التي تناولناها منذ هنيهة - غاية صوفية لدى فيلسوفنا، فهدف المدينة الكاملة في الأرض هو إنالة نفوس المواطنين السعادة بعد الموت، ولا أستطيع أن أقاوم رغبة الاستشهاد بالعبارة التي دلنا الفارابي فيها على هذه النفوس الصالحة، التي انتهت إلى نيل غايتها.
قال الفارابي: «وإذا مضت طائفة فبطلت أبدانها، وخلصت أنفسها وسعدت، فخلفهم أناس آخرون في مرتبتهم بعدهم قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم، فإذا مضت هذه أيضا وخلت، صاروا أيضا في السعادة إلى مراتب أولئك الماضين، واتصل كل واحد بشبيهه في النوع والكمية والكيفية، ولأنها كانت ليست بأجسام صار اجتماعها - ولو بلغ ما بلغ - غير مضيق بعضها على بعض مكانها؛ إذ كانت ليست في أمكنة أصلا، فتلاقيها واتصال بعضها ببعض ليس على النحو الذي توجد عليه الأجسام. وكلما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة واتصل بعضها ببعض - وذلك على جهة اتصال معقول بمعقول - كان التذاذ كل واحدة منها أزيد شديدا. وكلما لحق بهم من بعدهم زاد التذاذ من لحق الآن بمصادفة الماضين، وزادت لذات الماضين باتصال اللاحقين بهم؛ لأن كل واحدة تعقل ذاتها، وتعقل مثل ذاتها مرارا كثيرة فتزداد كيفية ما يعقل، ويكون تزايد ما تلاقي هناك شبيها بتزايد قوة صناعة الكتابة بمداومة الكاتب على أفعال الكتابة. ويقوم تلاحق بعض ببعض في تزايد كل واحد مقام ترادف أفعال الكاتب، التي بها تتزايد كتابته قوة وفضيلة، ولأن المتلاحقين إلى غير نهاية يكون تزايد كل واحد واحد، ولذاته على غابر الزمان إلى غير نهاية، وتلك حال كل طائفة مضت.» وهذه الزيادة لا حد لها.
ونظرية السببية لدى الفارابي غريبة جدا، ونحن نستخرجها من الرسالة التي عنوانها «فصوص الحكم»، والتي نشرها ديتريسي: «(48) كل ما لم يكن فكان فله سبب، ولن يكون العدم سببا لحصوله في الوجود، والسبب إذا لم يكن سببا ثم صار سببا فلسبب صار سببا، وينتهي إلى مبدأ تترتب عنه أسباب الأشياء على ترتيب علمه بها.»
وكذلك ليس هذا - بشكله الموجز - سوى نظرية السبب الأول المشهورة، التي يعرفها جميع فلاسفة العرب جيدا، غير أن رأي الفارابي لم يلبث أن أتى بوثبة، فقد قال: «لن تجد في عالم الكون والفساد طبعا حادثا أو اختيارا حادثا إلا عن سبب، ويرتقي إلى مسبب الأسباب، ولا يجوز أن يكون الإنسان مبتدئا فعلا من الأفعال من غير استناد إلى الأسباب الخارجية التي ليست باختياره، وتستند تلك الأسباب إلى الترتيب، والترتيب يستند إلى التقدير، والتقدير يستند إلى القضاء، والقضاء ينبعث عن الأمر، وكل شيء مقدر.»
Página desconocida