Ibn Sina, el Filósofo
ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته
Géneros
لقد حان لنا النهوض!
تحت السماء الصافية، على الجبال الشامخة، تجاه البساتين الزاهية، في السهول الصامتة، بين الجدران القائمة وحيال المواد المتراكمة وقف الفيلسوف وسيقف إلى الأبد يتأمل الموجودات ويراقبها متفهما حركاتها واختلاجات نفسه، ومحددا العلاقة الكائنة بين الاثنين، ثم يدون ما يتوصل إليه من القواعد والموازين بأسلوب منطقي؛ إرشادا للبشرية ودليلا للمنشغفين بالوجود الشامل.
من جميع الأمم، ومن سائر الممل والنحل خرج الفيلسوف وسيخرج؛ لأن مادة الفلسفة تأبى الجزئية، وتستعصي على الإحاطة والحصر.
تتعاقب الأجيال، وتتوالى السنون، والفلسفة تعمل بهمة لا تعرف الملل، وعزم لا يعتريه خوار على إيصال الإنسانية إلى ذروة الكمال ومسكن الجلال، غير عابئة بما يعترضها من الصعاب، ويقوم بوجهها من العقبات الكأداء.
هي كامنة في جميع العقول كمون النار في الهشيم، ومستعدة لأن تقود العاملين في تعاليمها إلى حظيرتها الآمنة، ولكنها إذا وجدت مقاومة في شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم تنتقم لنفسها انتقاما مريعا.
يكفي قليل من النظر إلى العلم لنتحقق من امتناع نمو الفلسفة بذاتها وحدها بدون نمو سائر الملكات؛ ذلك لأن جميع عناصر العقل يجب أن تبلغ إنماءها قبل التأمل؛ ولكون التأمل المرتب على نمط معين لا يظهر إلا متأخرا وبعد سائر الملكات. ونحن لا نتبسط في بيان هذه الظاهرة؛ لأنها من الحقائق الملموسة في طبيعة الأمم والأفراد على السواء،
1
وأقتصر على الإقرار بأن مجرى الأمور في الشعب العربي لم يكن مختلفا عنه في غيره؛ فإن الفلسفة العربية لم تكن نبتا في صحراء، ولا ثمرة غير منتظرة؛ بل كانت ثمرة لغرسة ناضجة، ونبتا لأرض مشغولة.
قبل الترجمات نرى العقل العربي كبيرا دقيقا يود الإبداع والتحليق في سماء النظريات السامية، إلا أن معارفه الضعيفة ومداركه المحدودة الآفاق تكسر أجنحته وترغمه على إرسال الحكم الشعبية دونما اكتراث بالتحاليل المنطقية، لكنه لما اطلع على الثقافات الأعجمية، وتبحر في الفلسفة اليونانية، اتسعت دائرة تفكيره، واستطال نفسه، واتخذ اتجاها آخر يختلف عن الأول تمام الاختلاف، فظهرت الشيع العلمية، وكثرت المجادلات المنظمة، وثارت المساجلات القائمة على الحجة والبرهان، وتمخضت العقول بالنظريات الجديدة، فصح المبدأ المتناقل أن العلم لا يختص بشعب من الشعوب، ولا بجيل من الأجيال؛ بل هو مشاع للجميع، وأنواره التي تشرق في إحدى البلدان المتمدنة يجوز لغيرها من الأمم الاستضاءة بها، ولو كانوا في المجاهل السحيقة والسيارات العلوية، والمعروف أن ما زرع من الأفكار العلمية في أحد البلدان، أو في أحد العصور نبت وأينع في بلاد ثانية أو عصر آخر، فرب فكرة تظهر في لبنان مثلا يأخذها عالم فرنسي، ويتعمق في درسها وتحليلها، ويزيدها صقلا ونحتا، ثم يرسلها نظرية فتانة ترفل بثوب قشيب.
وعندما نطلع على المصنفات التي نقلت من اليونانية إلى العربية ومدى التأثير الذي أحدثته في المفكرين الأعارب، نعترف بأن الحضارة العربية هي مدينة لإغريقيا في رقيها أكثر من غيرها؛ لأنها أمها في جميع أمور العقل تقريبا؛ إذن على أبناء الضاد ألا ينسوا هذه الحقيقة الواضحة؛ لئلا يرموا بالكفران وإغماط النعمة.
Página desconocida