ويعترف ابن سينا للفارابي بفضل كبير في تحصيل المعارف الإلهية، فقال: «قرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه علي فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة من هذا العلم، فقال لي: اشتر هذا مني فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، بسبب أنه كان لي محفوظا على ظهر قلب، وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء، شكرا لله تعالى ...» ولا يبعد أن ابن سينا اطلع على مراجع الفلسفة والحكمة في اللغة اليونانية، وأنه تعلم هذه اللغة في صباه من بعض الدعاة، وإن لم يبلغ هذا الظن مبلغ الخبر اليقين.
وكان من عادته إذا تحير في مسألة أن يتردد إلى الجامع ويصلي ويبتهل إلى «مبدع الكل» حتى ينفتح له مغلقها ويتيسر عسيرها. ولم يعهد منه أنه ضاق بمسألة من المسائل في غير الفلسفة الإلهية أو مباحث ما بعد الطبيعة. أما العلوم الأخرى فكان يجيدها ويزيد عليها وينقح ما احتاج إلى التنقيح منها، واتفق له وهو دون الخامسة عشرة أنه اطلع على بعض مراجع الطب فتعلق بها وعكف على قراءتها، وقال: «إن علم الطب ليس من العلوم الصعبة» فكان يعتمد على نفسه في درسه تارة ويراجع أبا سهل المسيحي وأبا منصور الحسن بن نوح على ما جاء في بعض الروايات تارة أخرى. فلم يبلغ السابعة عشرة حتى ترامت شهرته بالتطبيب والتعليم في الآفاق الشرقية، وجاءه المنقطعون لهذا العلم يسألونه ويقرأون عليه، وكان يعلمهم ويعالج المرضى حبا للخير والاستفادة بالعلم لا للتكسب وجمع الحطام، وعالج الأمير نوح بن منصور وهو في السابعة عشرة فشفاه وأصاب حيث أخطأ مشاهير الأطباء، فاستدناه الأمير وأذن له في الاطلاع على دار كتبه «وكانت ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض»، فرأى من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط وظفر بفوائدها وعرف مرتبة كل رجل في علمه.
وكانت طريقته في الاطلاع - بعد أن تمكن من العلم - أن يتصفح ولا يتتبع حتى يمتحن قدرة المؤلف بأصعب الموضوعات في الكتاب.
ولم يكن أعجب من سرعته في التحصيل غير سرعته في التدوين، ففي الثامنة عشرة ألف كتاب «المجموع» إجابة لرجاء بعض مريديه، وأودعه خلاصة علوم عصره ما عدا الرياضيات، وقال في كهولته: «كنت يومذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.»
أما سرعته في التدوين والتأليف فمن أمثلتها كما روى تلميذه الأمين - الجوزجاني - الذي لازمه واستحثه على تأليف كتبه ونقل للخلف أصدق ما أثر عنه «أنه طلب منه إتمام كتاب الشفاء، فاستحضر أبا غالب، وطلب الكاغد والمحبرة فأحضرهما، وكتب الشيخ في قريب من عشرين جزءا على الثمن بخطه رءوس المسائل، وبقي فيه يومين. حتى كتب رءوس المسائل كلها بلا كتاب يحضره ولا أصل يرجع إليه، بل من حفظه وعن ظهر قلبه، ثم ترك الشيخ تلك الأجزاء بين يديه، وأخذ الكاغد فكان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها، فكان يكتب كل يوم خمسين ورقة حتى أتى على جميع الطبيعيات والإلهيات ما خلا كتابي الحيوان والنبات.»
بل ربما ألف الكتب في معضلات الفلسفة وهو مسافر، كما صنع في تأليف بعض فصول النجاة.
وتولى أعمالا جليلة في الدول الشرقية فلم تشغله عن شيء من مألوفه في التحصيل أو الكتابة أو اللهو والسماع. فكان يصرف أعمال الدولة بالنهار، ويجلس للتدريس والكتابة بالليل ... «فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم وهيئ مجلس الشراب بآلاته ...»
قال الجوزجاني: «وكان الشيخ قوي القوى كلها، وكانت قوة المجامعة في قواه الشهوانية أقوى وأغلب ... فأثرت في مزاجه، وكان الشيخ يعتمد على قوة مزاجه حتى صار أمره في السنة التي حارب فيها علاء الدولة تاش فراش على باب الكرخ إلى أن أخذه قولنج - أي مرض في الأمعاء الغلاظ - ولحرصه على برئه إشفاقا من هزيمة يدفع إليها ولا يتأتى له المسير فيها مع المرض حقن نفسه في يوم واحد ثماني كرات، فتقرح بعض أمعائه ...»
وقد خوطب في ذلك فقال: إنه يحب الحياة عريضة قصيرة ولا يحبها ضيقة طويلة!
وتمت لابن سينا هذه الأمنية - إن صح أن تسمى أمنية - لأنه مات في نحو السادسة والخمسين بالسنين الشمسية، وحفلت حياته بالحركة والعمل، كما حفلت باللهو والخطر. فلم تكن الحياة العريضة الحافلة مما يسره ويوافق مرامه في جميع الأحوال، لأنه عاش في عصر الانقسام والتنازع على الملك بين أمراء الأقاليم في الرقعة الشرقية من الدولة العباسية، وكانت شهرته بالطب وشهرته بالعلم تغريان الأمراء بتقريبه وتزيين مجالسهم باسمه وفضله، فدخل في منازعاتهم ولحقه من تقلب أحوالهم ما أرادوه وتعمدوه وما لم يريدوه ولم يتعمدوه. فتعرض للقتل والسجن ونجا بنفسه غير مرة في زي الفقهاء تارة وفي زي الدراويش تارة أخرى، وكثرت رحلاته بين خراسان وأصفهان وهمدان والري وجرجان، وكان بعض هذه الرحلات في صحبة الأمراء والجند وهم يزحفون للقتال، وبعضها في خفية عن الأمراء والجند هربا مما يقصده به هؤلاء وهؤلاء، وانعقدت له صلة وثيقة بجميع هؤلاء الأمراء ما عدا أمراء الدولة الغزنوية؛ لأنه أعرض عن دعوتهم وبغضه فيهم أنهم جعلوا الدعوة إلى السنة ذريعة إلى البطش بأصحاب المذاهب الأخرى ولا سيما الشيعة والمشتغلين بالفلسفة والرياضيات، ولعله لم يغفر لهم قسوتهم على أصدقائه من أمراء الدولة السامانية، فإنهم غدروا بهم وعذبوهم وقد كانوا لهم قبل ذلك من الخدم والأتباع، ولم يكن أحب إلى الأدباء والحكماء من أمراء آل سامان لعطفهم على الفن والأدب وتشجيعهم للتأليف والتحصيل، وحسبهم عندهم أنهم رعاة الرازي والفردوسي وأصحاب سمرقند التي نشرت صناعة الورق في بلاد المسلمين.
Página desconocida