هذا السبب الأول هو علة وجود كل موجود.
ولا يمكن أن يكون «العالم» هو السبب الأول؛ لأنه متكرر متغير، فلا بد له من سبب متقدم عليه.
ومن ثم تنقسم الموجودات إلى قسمين: قسم «واجب الوجود» يستلزم العقل وجوده لا محالة، وهذا هو السبب الأول، أو هذا هو الله سبحانه وتعالى، ويوصف بكل صفات الكمال دون أن يقتضي ذلك التعدد؛ لأن نفي النقائص المتعددة لا يقتضي التعدد، بل هو صفة واحدة معناها الكمال.
وقسم مفتقر إلى سبب، ووجوده ممكن، ولكنه ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل بسبب واجب، فهو مخلوق على هذا الاعتبار.
قال الفارابي ينفي الظنة عن أرسطو في إنكار القول بخلق العالم: «ومما دعاهم إلى ذلك الظن أيضا ما يذكره في كتاب السماء والعالم أن «الكل» ليس له بدء زماني، فيظنون عند ذلك أنه يقول بقدم العالم، وليس الأمر كذلك؛ إذ قد تقدم فبين في ذلك الكتاب وغيره من الكتب الطبيعية والإلهية أن الزمان إنما هو عدد حركة الفلك وعنه يحدث، وما يحدث عن الشيء لا يشتمل ذلك الشيء. ومعنى قوله إن العالم ليس له بدء زماني أنه لم يتكون أولا فأولا بأجزائه كما يتكون البيت مثلا أو الحيوان الذي يتكون أولا فأولا بأجزائه؛ فإن أجزاءه يتقدم بعضها بعضا بالزمان، والزمان حادث عن حركة الفلك، فمحال أن يكون لحدوثه بدء زماني، ويصح بذلك أنه إنما يكون عن إبداع الباري جل جلاله إياه دفعة واحدة بلا زمان، وعن حركته حدث الزمان.»
وعلى هذا يكون الخلق في رأي المعلم الثاني هو الإخراج من الإمكان إلى الفعل، ويكون الوجود بالفعل مصاحبا للزمان. أما الوجود بالقوة فهو في علم الله الذي لا زمان ولا مكان؛ لأن الله أبدي لا أول له ولا آخر، وإنما يقترن الزمان بالموجودات والمتحركات.
وهذا ولا ريب اجتهاد من المعلم الثاني في تفسير كلام المعلم الأول، ولكنه استحسن هذا الاجتهاد لأنه قرأ كتاب «الثاؤلوجيا» أو الربوبية كما سماه وظنه من تواليف أرسطو ... وهو على ما تقدم من آراء أفلوطين وتفسير ملك الصوري وإسكندر الأفروديسي. ولهذا استطرد الفارابي بعد الكلام السابق قائلا: «ومن نظر في أقاويله في الربوبية في الكتاب المعروف بأثولوجيا لم يشتبه عليه أمره في إثباته الصانع المبدع لهذا العالم. فإن الأمر في تلك الأقاويل أظهر من أن يخفى، وهناك تبين أن الهيولى أبدعها الباري جل ثناؤه لا عن شيء وأنها تجسمت عن الباري سبحانه ثم ترتبت ...»
وهذا في الحقيقة مستمد من كلام أفلوطين وتوسع فيه إسكندر الأفروديسي، ثم جاء المعلم الثاني فتوسع في كلام الأفروديسي وزاد عليه ما يوفق بينه وبين الدين - ولا سيما في مسألة «العقول» والأفلاك التي هي عند الفارابي من ملائكة الله. ويؤخذ من شرح الفارابي لبعض كلام «زينون» الفيلسوف الرواقي أنه اعتمد عليه أكبر اعتماد في مسألة العقول.
ولهذا كان مذهب الفارابي جامعا بين مذهب أرسطو عن الحركة ومذهب أفلوطين عن الصدور ومذهب أفلاطون عن «المثل» الأبدية ومذهب الرواقيين في النفس العاقلة وانبثاثها في الأجسام ... فمنذ الأزل وجدت الأشياء في علم الله وهذا هو علة وجودها، والله جل وعلا يعقل «فالعقل الأول» صادر عنه فائض من وجوده، وهذا العقل الأول هو الذي يحرك الفلك الأكبر وتأتي بعده عقول الأفلاك المتوالية إلى العقل العاشر الذي يعقد الصلة بين الموجودات العلوية والموجودات السفلية.
فالوجود إذن ثلاث مراتب: أولاها الوجود الإلهي، وثانيتها وجود هذه العقول المتدرجة، وثالثتها وجود العقل الفعال. ومن هنا نفهم كيف تعددت الكثرة عن الواحد الذي لا يتعدد، وكيف جاءت الصلة بين المعاني المجردة والمحسوسات.
Página desconocida