فذلك شيء معروف بنفسه، وكذلك كونها ضرورية في وجود المسببات وبخاصة التي هي جزء من الشيء المسبب - أعني التي سموها قوم مادة وقوم شرطا ومحلا - والتي يسميها قوم صورة وقوم صفة نفسية.
والمتكلمون يعترفون بأن هاهنا شروطا هي ضرورية في حق المشروط، مثل ما يقولون: إن الحياة شرط في العلم، وكذلك يعترفون بأن للأشياء حقائق وحدودا، وأنها ضرورية في وجود الموجود؛ ولذلك يطردون الحكم في الشاهد والغائب على مثال واحد، وكذلك يفعلون في اللواحق اللازمة لجوهر الشيء، وهو الذي يسمونه الدليل، مثل ما يقولون إن الإتقان في الموجود يدل على كون الفاعل عاقلا، وكون الموجود مقصودا به غاية، ما يدل على أن الفاعل له عالم به، والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة؛ فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل.
وصناعة المنطق تضع وضعا أن هاهنا أسبابا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها.
فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له؛ فإنه يلزم ألا يكون هاهنا برهان واحد أصلا، وترتفع أصناف المحمولات الذاتية التي منها تأتلف البراهين.
ومن يضع أنه ولا علم واحد ضروري، يلزمه ألا يكون قوله هذا ضروريا.
وأما من يسلم أن هاهنا أشياء بهذه الصفة وأشياء ليست ضرورية وتحكم النفس عليها حكما ظنيا وتوهم أنها ضرورية وليست ضرورية، فلا ينكر الفلاسفة ذلك. فإن سموا مثل هذا عادة جاز، وإلا فما أدري ماذا يريدون باسم العادة؟ هل يريدون أنها عادة الفاعل أو عادة الموجودات أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات؟ ومحال أن يكون لله تعالى عادة؛ فإن العادة ملكة يكتسبها الفاعل توجب تكرر الفعل منه على الأكثر، والله - عز وجل - يقول:
فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ، وإن أرادوا أنها عادة للموجودات، فالعادة لا تكون إلا لذي نفس، وإن كانت في غير ذي نفس فهي في الحقيقة طبيعة تقتضي الشيء، إما ضروريا وإما أكثريا.
وأما أن تكون عادة لنا في الحكم على الموجودات؛ فإن هذه العادة ليست شيئا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلا.
وليس تنكر الفلاسفة مثل هذه العادة، فهو لفظ مموه إذا حقق لم يكن تحته معنى إلا أنه فعل وضعي، مثل ما نقول: جرت عادة فلان أن يفعل كذا وكذا، ويريد أنه يفعله في الأكثر، وإن كان هذا هكذا كانت الموجودات كلها وضعية، ولم يكن هنالك حكمة أصلا من قبلها ينسب إلى الفاعل أنه حكيم.
فكما قلنا لا ينبغي أن يشك في أن هذه الموجودات قد تفعل بعضها بعضا ومن بعض، وأنها ليست مكتفية بنفسها في هذا الفعل بل بفاعل من خارج فعله، شرط في فعلها بل في وجودها فضلا عن فعلها.
Página desconocida