وقال كذلك ناقلا عن الفلاسفة: «معنى ما حكاه عن الفلاسفة من هذا الدليل هو أن العقل يدرك من الأشخاص المتفقة في النوع معنى واحدا تشترك فيه، وهي ماهية ذلك النوع، من غير أن ينقسم ذلك المعنى بما تنقسم به الأشخاص من حيث هي أشخاص من المكان والوضع والمواد التي من قبلها تكثرت، فيجب أن يكون هذا المعنى غير كائن ولا فاسد ولا ذاهب بذهاب شخص من الأشخاص التي يوجد فيها هذا المعنى؛ ولهذا كانت العلوم أزلية غير كائنة ولا فاسدة إلا بالعرض، أي من قبل اتصالها بزيد وعمرو ... قالوا: وإذا تقرر هذا من أمر العقل وكان في النفس، وجب أن تكون النفس غير منقسمة بانقسام الأشخاص، وأن تكون أيضا معنى واحدا في زيد وعمرو، وهذا الدليل في العقل قوي؛ لأن العقل ليس فيه من معنى الشخصية شيء، وأما النفس فإنها وإن كانت مجردة من الأعراض التي تعددت بها الأشخاص، فإن المشاهير من الأشخاص يقولون: ليس تخرج من طبيعة الشخص وإن كانت مدركة، والنظر هو في هذا الموضع.»
قال هذا ناقلا عن الفلاسفة، وقال إنه موضع نظر؛ لأنه ووجه بالحجة القوية من قبل الغزالي كعادته في قوة البرهان؛ حيث قابل بين اتفاق العقول في الفهم واتفاق الحاسة الواحدة في الرؤية عشرات المرات، فقال: إن وحدة الرؤية بين الحواس لا تدل على أن العين واحدة في جميع الناس.
وعرض للكلام عن العقل الهيولاني - وهو العقل الذي يرى المتأخرون من أتباع أفلوطين أنه يقبل الصور كما تقبلها الهيولى، وينسبونه إلى الهيولى والمادة الأولى من أجل ذلك - فقال: «إن العقل الهيولاني يعقل أشياء لا نهاية لها في المعقول الواحد، وما جوهره هذا الجوهر فهو غير هيولاني أصلا؛ ولذلك يحمد أرسطو أنكساغوراس في وضعه المحرك الأول عقلا أي صورة بريئة من الهيولى، ولذلك لا ينفعل عن شيء من الموجودات؛ لأن سبب الانفعال هو الهيولى، والأمر في هذا في القوى القابلة كالأمر في القوى الفاعلة؛ لأن القوى القابلة ذوات المواد هي التي تقبل أشياء محدودة.»
ورد على قول الغزالي إن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، فقال: «هذا شيء ما وجد لواحد ممن تقدم فيه قول ... وإن الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود ... وكذلك هي متفقة في الأفعال التي توصل إلى السعادة التي في الدار الآخرة، وإن اختلفت في تقدير هذه الأفعال، فهي بالجملة لما كانت تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع كانت واجبة عندهم؛ لأن الفلسفة إنما تنحو نحو تعريف سعادة بعض الناس العقلية، وهو من شأنه أن يتعلم الحكمة، والشرائع تقصد تعليم الجمهور عامة، ومع هذا فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبهت بما يخص الحكماء وعنيت بما يشترك فيه الجمهور ... «وكل» مناقض للأنبياء - صلوات الله عليهم - وصاد عن سبيلهم فإنه أحق الناس بأن ينطلق عليه اسم الكفر، ويوجب له في الملة التي نشأ عليها عقوبة الكفر.» •••
ويؤخذ مما تقدم من كلام ابن رشد وما نقله عن الفلاسفة غير معقب عليه بنفي أو مناقضة؛ أنه كان يؤمن بأن النفس الناطقة جوهر مجرد لا يقبل الفناء، وأن لها سعادة في المعاد تشبه سعادة الفناء في الله التي يؤمن بها الصوفية، أما النفس الحيوانية فهي متعلقة بحياة الإنسان في هذه الدنيا، وليست هي محل العقل والروح، ويؤمن بعد هذا بأن الروح من أمر الله، فلا يجب الخوض في الكلام عنها بما يخالف الوحي ويناقض الأنبياء.
وابن رشد يرى أن العقل المفارق - أي المجرد - لا يفعل في المادة ولا ينفعل بها، ولكن هناك عقلا متوسطا بين نفس الإنسان وبين العقل الفعال هو واسطة الاتصال، ومنه يتلقى الإنسان فهم المعاني المجردة أو الصور المفارقة، وهذا العقل المتوسط هو الذي يسمى بالعقل الهيولاني؛ لأنه قابل للصور مثل الهيولى. •••
تلك هي المسائل الكبرى التي أثارت الجدل في عصر ابن رشد وفيما تلاه من القرون الوسطى، وهي: مسألة قدم العالم، ومسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة النفس وبقائها.
وثمة مسألتان أخريان ثار حولهما شيء من الجدل، ولكنه لم يبلغ هذا المبلغ من العنف وطول الأمد، وهما: مسألة الصفات الإلهية، ومسألة الحقيقتين.
وقد أسلفنا أن مسألة الصفات الإلهية لم تكن مشكلة عسيرة في العالم المسيحي إلى جانب البحث في الأقانيم الثلاثة، أما عند المتكلمين والمعتزلة وفلاسفة المسلمين فقد كانت مثار خلاف شديد، أكثره فيما نظن راجع إلى أن الصفة باللغة اليونانية واللغة اللاتينية تفيد معنى الشرط أو الخاصة المقومة للموصوف، أو الواسطة التي يعرف بها ما لا يعرف بذاته، خلافا لمعناها العربي الذي لا يفيد شيئا من ذلك.
فليس من العجيب إذن أن تثير عند أهل التوحيد ذلك الخلاف لتمحيص معناها، وتنزيه الوحدانية عن مسألة الصفات رأيا قريبا مما قدمناه في الكلام على العلم بالجزئيات والكليات.
Página desconocida