وواضح من مذهب ابن رشد في جميع كتبه أنه لا خلاف في خلق الله للعالم، ولكن الخلاف في سبق الزمان للعالم، أو أن الزمان والعالم وجدا معا، وعند ابن رشد أن العالم قديم؛ لأنه موجود بمشيئة الله ولا راد لمشيئته، وليس لها ابتداء.
وموضع اللبس في مذهب ابن رشد أنه لم يفرق بين الزمان والأبدية، وهما مختلفان.
فالزمان لا يتصور إلا مع الحركة، والأبدية لا تتصور مع الحركة بحال من الأحوال؛ إذ الكائن الأبدي لا يتحرك من مكان إلى مكان ولا من زمان إلى زمان، وليس قبله شيء ولا بعده شيء فيتحرك مما قبله إلى ما بعده.
ومذهب أفلاطون في الزمان أصح من مذهب معارضيه؛ فإنه يرى أن الزمان محاكاة للأبدية، أنعم الله به على الموجودات؛ لأنها لا تستطيع أن تشبه الله في صفة الدوام بلا ابتداء ولا انتهاء، وكلام الإمام الغزالي حين قال إن وجود العالم بعد وجود الله لا يقتضي وجود الزمان بينهما غاية في الدقة؛ فإن هاهنا ذاتين فقط، ولا محل لفرض وجود الزمان بين الوجود الأول والوجود الثاني، وإنما هو - كما قال - من أغاليط الأوهام.
علم الله بالجزئيات
أما القول بأن الله لا يعلم الجزئيات، فلم يحفل ابن رشد به كثيرا؛ لأن هذا القول «ليس من قولهم» - أي الفلاسفة - كما قال في آخر كتاب «تهافت التهافت»، وعرض لهذه المسألة في كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، فقال: «إن أبا حامد - أي الغزالي - قد غلط على الحكماء المشائين فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه - تقدس وتعالى - لا يعلم الجزئيات أصلا، بل يرون أن الله - سبحانه وتعالى - يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا؛ وذلك أن علمنا معلول للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود ... وكيف يتوهم على المشائين أنهم يقولون إنه سبحانه لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات، وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبر للكل والمستولي عليه. وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على النحو الذي نعلمه نحن بل ولا الكليات، فإن الكليات المعلومة عندنا معلولة أيضا على طبيعة الموجود، والأمر في ذلك بالعكس؛ ولذلك ما قد أدى إليه البرهان أن ذلك العلم منزه عن أن يوصف بكلي أو بجزئي، فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني في تكفيرهم أو لا تكفيرهم ...»
9
وواقع الأمر أن مذاهب الفلاسفة الإلهيين لم يرد فيها قط ما يدعو إلى هذه الشبهة، وأن ابن رشد على الخصوص كان في طليعة القوم تنزيها لعلم الله، بل إنه قال في غير موضع من كتبه: إن علم البرهان نفسه إنما هو من وحي الله.
خلود النفس
ولتمحيص القول بخلود النفس عند ابن رشد ينبغي الرجوع إلى مذهب أرسطو في النفس والعقل؛ لأنه إذا صح ما قيل من أن توما الإكويني نصر أرسطو، فأصح من ذلك أن ابن رشد حنفه - أي: جعله مسلما حنيفا - واجتهد في تنقيته من كل ما يخالف العقيدة الإسلامية غاية اجتهاده.
Página desconocida