وليس مما يعيب ابن رشد ألا يقصد في كتابه «تهافت التهافت» إلى بيان الحق فيما استحر فيه الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين؛ فإنه أمين على ما وضع من قواعد للتوفيق بين الحكمة والشريعة، ومن ذلك تقسيم الناس إلى طبقات، ومخاطبة كل طبقة بما هي أهل له، وإذن فليس من الخير في رأيه أن يجعل في كتابه - وهو عرضة للذيوع بين الخاصة والعامة - ما يكون ضررا لطائفة من الناس لا تطيق النظر الصحيح.
وهو وإن كان حريصا على الاعتراف لخصمه العنيد بما يصيب فيه، وعلى التزام القصد والترفع عن المهاترة في الخصومة؛ فإنه وهو الذي شاهد في القضاء ألوانا من الخصومات والأسلحة التي استخدمت فيها، لم ير بدا من أن يرد أحيانا على حجة الإسلام بعض ما رمى به الفلاسفة من سباب.
لقد رماه بالقصور في فهم الحكمة؛ لأنه قنع فيها بكتب ابن سينا، فلحقه القصور من هذه الجهة، كما يقول ابن رشد في «تهافت التهافت»، وعاب عليه ما قصد إليه من التشويش على الفلاسفة ودعاويهم، وكان لومه له رفيقا. إنه يكتفي بالقول بأن هذا الغرض لا يليق به، والقصد إليه هفوة من هفوات العالم؛ لأن العالم يجب أن يكون قصده طلب الحق لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول.
وما أقومه درسا يلقيه فيلسوفنا على الغزالي وأمثاله! إذ يقول في موضع آخر من تهافته:
وأما قوله: إن قصده ها هنا ليس هو معرفة الحق، وإنما قصده إبطال أقاويلهم، وإظهار دعاويهم الباطلة، فقصد لا يليق به، بل بالذين في غاية الشر، وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاد هذا الرجل من النباهة، وفاق الناس فيما وضع من الكتب التي وضعت [لعله: وضعها] فيها، إنما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعليمهم.
وهبهم أخطئوا في شيء؛ فليس من الواجب أن ينكر فضلهم في النظر وما راضوا به عقولنا، ولو لم يكن لهم إلا صناعة المنطق لكان واجبا عليه وعلى جميع من عرف مقدار هذه الصناعة شكرهم عليها ... أفيجوز لمن استفاد من كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها، حتى فاق أهل زمانه، وعظم في ملة الإسلام صيته وذكره، أن يقول فيهم هذا القول، وأن يصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم؟!
وإذن وضعنا [أي: سلمنا] أنهم يخطئون في أشياء من العلوم الإلهية، فإنا إنما نحتج على خطئهم من القوانين التي علمونا إياها في علومهم المنطقية، ونعتقد أنهم لا يلوموننا على التوقيف على خطأ إن كان في آرائهم؛ فإن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن لهم إلا هذا القصد لكان ذلك كافيا في مدحهم، مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء، فلا أدري ما حمل هذا الرجل على مثل هذه الأقوال! أسأل الله العصمة والمغفرة من الزلل في القول والعمل.
هذه كلمة طويلة، لكنها درس قصد منه فيلسوف قرطبة الحث بقوة على معرفة الحق لصاحبه، وشكره من أجله، وعلى وجوب نبذ الهوى والتعصب بغير حق؛ فذلك أجمل بالإنسان، وأدعى للإنصاف.
وفي مواضع أخرى من كتابه «تهافت التهافت» نفسه، نجده يرى أن خصمه العنيف أحق إنسان بالخزي والافتضاح، كما يصفه بأنه لا يخلو من الشرارة أو الجهل، وإن كان جهله أقرب إلى الشر، ويصف أيضا جميع ما تضمنه الفصل، الذي خصصه الغزالي لبيان عجز الفلاسفة عن إقامة الدليل على أن الله يعرف ذاته، بأنه تمويه وتهافت من أبي حامد، ويقول: «فإنا لله وإنا إليه راجعون على زلل العلماء ومسامحتهم لطلب الذكر في أمثال هذه الأشياء!» ويختم هذه الفقرة بقوله: «أسأل الله ألا يجعلنا ممن حجب بالدنيا عن الأخرى، وبالأدنى عن الأعلى.»
وأخيرا، يرى ابن رشد أن الغزالي اضطر إلى مصانعة أهل عصره، فكان هذا سببا في أنه لم يصدع بالحق دائما، وشنع على الفلاسفة أحيانا بما هم منه براء.
Página desconocida