ذلك بأن الإمام الغزالي ندب نفسه للرد على الفلاسفة فيما رآه منافيا للدين، حين لم ير - كما يقول - أحدا من رجال الإسلام صرف عنايته لذلك، كما ذكر لنا في «المنقذ من الضلال»، وكان من هذا أن شهر عليهم حربا لا هوادة فيها، واستعمل فيها كل ما قدر عليه من سلاح، وانتهى بالحكم عليهم بأنهم مبتدعون ملاحدة في كثير مما ذهبوا إليه، وكفرة مارقون من الدين في بعض ما أداهم إليه تفكيرهم الذي تأثروا فيه أيما تأثر بفلاسفة الإغريق. وهنا يجب أن نقف قليلا لنعرف ماذا قصد إليه الغزالي من تلك الحرب.
لقد كان من غرض حجة الإسلام من هذه الحرب التي أوقد نارها بشدة أن يصرف الناس عن الفلسفة، ببيان أنها لا تتفق والدين، وعن الفلاسفة بدمغهم بميسم الإلحاد والكفر. ونحن جميعا ندرك ما في اتهام مفكر بأنه يعنى بالفلسفة في ذلك الزمن، فكيف إذا اتهم بعنف من حجة الإسلام الغزالي بأنه كافر! لا ريب يكون جزاؤه تبرؤ المسلمين منه، واستحلال دمه، وإعدام مؤلفاته.
وقصد كذلك نزع الثقة من الفلاسفة من ناحية التفكير، بعد أن طعنهم في عاطفتهم الدينية، حتى لا يخدع أحد بتعاليمهم، وقد ظهر هذا القصد منه ظهورا واضحا.
نراه يصرح بأن الرياضيات من العلوم الفلسفية، وإن كان لا سبيل لإنكارها، ولكن من ينظر فيها «يحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة؛ فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم ما تتداوله الألسنة، فيكفر بالتقليد المحض.» ولهذا «يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ... فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين.» كما ينهى لمثل هذا السبب عن قراءة كتبهم في الأخلاق، حتى لا يغتر أحد بما مزجوه بها من الحكم النبوية والكلمات الصوفية.
2
بل إن هذا القصد ظهر منه أول ما شرع في كتابه «تهافت الفلاسفة»، فنراه يذكر في المقدمة أنه ألفه للرد على الفلاسفة الأغبياء الذين تجملوا بالكفر تقليدا؛ لظنهم أن ذلك يدل على حسن الرأي، ويشعر بالذكاء؛ «فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.»
وأخيرا، كان من غرضه في حربه تلك أن يشير إلى أنه هناك بعد الوحي طريق آكد من العقل في معرفة الحقيقة وآمن، وأكثر رحابة منه، وذلك هو التصوف. وقد كان طبيعيا ومنطقيا من الغزالي ، بعد أن بين قصور العقل الذي عليه وحده يعتمد الفلاسفة في الوصول إلى الحقيقة، أن يدلنا على طريق آخر للوصول إليها.
بهذا الطريق، أو بالتصوف، انكشفت له الحقائق، ولم يكن ذلك - كما يقول - بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة؛ فقد ضيق رحمة الله الواسعة، ولذلك نجده يوقن أن الصوفية هم الذين أحسنوا اختيار الطريق إلى الله وإلى الحقيقة؛ «فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.»
هكذا هاجم الغزالي الفلسفة والفلاسفة من هذه الطرق، مريدا الحط من الفلسفة، وصرف الناس عنها وعن رجالاتها، ونعتقد أنه نجح فيما أراد إلى حد كبير.
إنه من الحق القول بأنه - بعد الغزالي - عدم العالم الإسلامي في الشرق فيلسوفا من طراز الفارابي وابن سينا، بل صارت الدراسات الفلسفية تكاد تنحصر في اقتباس ما يتفق والعقائد الدينية من مذهب المعلم الأول، أو الشيخ الرئيس، أو غيرهما، كما فترت العناية بمسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة، وزادت بالعلوم العملية كالأخلاق والسياسة، كما يذكر المستشرق دي بور في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، وجاء ما يمكن أن يسمى بعصر الشروح والحواشي والتعليقات والمختصرات.
Página desconocida