151

Ibn Rumi: Su vida a través de su poesía

ابن الرومي: حياته من شعره

Géneros

وسيأتي تفصيل الكلام على ملكة التصوير في شعره عند الكلام على عبقريته، والصلة بين فنه وبين الطبيعة والحياة. •••

وليس يكفي أن نقول: إن ابن الرومي كان ساخرا بارع التصوير؛ لنعلم كل شيء نحب أن نعلمه عن سخره، فإن السخر يتنوع حتى لا يتفق في الباعث الذي يوحيه، ولا في العبارة التي تؤديه، وأدباء «النفسيين» يقسمونه إلى التهكم والعبث، والمجانة والفكاهة، ويجعلون كل قسم منها جميعا نوعا من «الضحك» قائما بمفرده، مستقلا بصيغته وغرضه. والأقرب إلى فهم الموضوع عندنا أن نوحد الضحك، ونجعل الاختلاف في الخلائق والحالات النفسية، فنفرق بين ضحك الخليقة الكريمة، وضحك الخليقة اللئيمة، وبين الضحك في حالة الرضى والعطف، والضحك في حالة الغضب والجفاء، ثم نفرق بين العبث في الحالين المختلفين من النفس الواحدة؛ فعبث النبيل الأريحي غير عبث الوضيع الخبيث، وتهكم الصارم الأبي غير تهكم الرخو الذليل، وفي الدنيا من التهكم بمقدار ما فيها من المتهكمين، نعني بذلك أن التهكم ليس «نوعا» واحدا من الضحك، ولا شكلا واحدا من الملكات، ولكنه أنواع تختلف باختلاف الحالات والخلائق والأساليب؛ فخير لنا أن نرجع إلى اختلاف هذه الحالات من أن نجمع التهكم كله في باب واحد، وصبغة واحدة، وهو ليس كذلك.

وما من ضاحك إلا وهو قابل لجميع هذه الحالات في مختلف الأطوار، فهو متهكم حينا وعابث حينا، ومازج بين هذين الشعورين في بعض الأحيان كما يتفق كثيرا أن يمتزج الشعوران المتغايران.

فإذا قلنا: إن ابن الرومي ساخر فقد بقي أن نعرف نوع السخر؛ لنعرف نوع الطبيعة التي توحيه، فإن المرء - كما تقدم - يكون ساخرا وهو طيب سليم الطوية، وساخرا وهو خبيث مظلم السريرة، فمن أي فئات الساخرين كان ابن الرومي، وأي خليقة من الخلائق كانت تهيمن على سخره؟ أنسلكه في الطيبين أو في الخبثاء؟ وفي الخلائق الشفافة القويمة أو في الخلائق الكدرة العوجاء؟

إننا نسأل هذا السؤال ونبتسم.

نبتسم كما قد نرى الطفل اللعوب يعدو وراء مضحكة من المضاحك، أو فرجة من الفرج، ثم يسألنا السائل في جد ورزانة: ما هي العداوة التي يكنها ذلك الطفل لمن يعدو خلفهم، ويلهو بمعابثتهم؟! فأي عداوة وأي صداقة؟ وأي خباثة وأي طيبة؟ هنا مضحكة وكفى! ولن يفهم الطفل في منطقه إلا أنه يستطيع هنا أن يضحك، فلم لا يضحك؟ إي نعم، لم لا والضحك لذيذ والإغراء به حاضر؟!

فابن الرومي هو ذلك الطفل في سخره وضحكه وتهكمه وهجائه، لسنا نفهمه حق فهمه إلا إذا تمثلناه أبدا في جدة الإحساس واخضراره على هيئة الطفولة النامية التي لا تجف ولا تشيخ، وإن جفت المفاصل وشاخت الأوصال، وستمر بنا عقد كثيرة من عاداته ومواهبه لا تدرك ولا تفسر إلا على اعتبار واحد، وهو أنه طفل كبير لا يفرغ من الطفولة طول حياته! فسل ما شئت عنه، ولكن سؤالك عن الطفولة النامية بمزيتها ونقصها، وطيبها وخبثها، ورضاها وغضبها، وانتظر منه سوء الأدب إذا غضب، أو احتدم غيظه واختنق صدره، ولكن لا تنس أن الأدب السيئ خلة غير خلة الطبيعة السيئة، وأن ليس الكظم والسكوت علامة على الكرامة والصفح الجميل في كل حال.

وأجهل الناس بالطبائع الإنسانية من يصف امرأ كابن الرومي بالحسد والضغينة؛ لأنه كان يتألم ويتحسر لحرمانه، ويعجب لحظوة الجهلاء بالخير دونه؛ إذ ليس الحسد أن يألم الإنسان؛ لأنه محروم مزءود عن النعم التي يشتهيها ويتذوقها، ويعرف معنى المتعة بها، ولا أن يرى - مصيبا أو مخطئا في رأيه - أنه أجدر وأليق بتلك النعم ممن لا يحسبهم أنداده في الفضل والذكاء، وأقرانه في المناقب والمآثر، كلا! ليس هذا هو الحسد المذموم المعدود في رديء الصفات، وإنما الحسد المذموم هو خلق كريه يبتلى به المرء، فلا يطيق النعمة عند غيره وإن كانت عنده، ولا يستريح إلى شعور الناس بالسعادة لانقطاع ما بينه وبينهم من رحم العطف والمشاركة في الأفراح والآلام.

فالحسد نضوب في العاطفة، وابن الرومي أبعد إنسان من نضوب العاطفة، وتحجر في الشعور، وليس للتحجر في خلائق ابن الرومي وأمثاله مكان، والحاسد لا يجعل الخير مقرونا بالفضل، والنعمة مرهونة بالمناقب، ولا يطلب المتعة والجاه لأنه أقدر وأجدر ممن ينعمون بهما في الدنيا بغير حق ولا معرفة؛ إذ التفكير على هذا النمط غريب عن جبلة الحاسد الذي إنما يريد الخير؛ لأنه يريده وكفى! ثم لا يكلف عقله أن يدلي له بحجة في طلبه غير حجة الأثرة الحيوانية التي لا تسأله سببا، والأنانية الصماء التي لا تعقل ولا توازن ولا تتدبر، ويسوءه أن ينعم الناس لأنه يرى النعمة وقفا عليه، ويرى أن كل ما سر غيره مسلوب منه، وليكن ذلك السرور علما وهو لا ينافس العلماء، أو صلاحا وهو لا يتشبه بأهل الصلاح، أو شرفا وهو لا يطمح إلى الشرف، فحسبه أنه سرور في عرف أحد من الناس، وحظ ينعم به غيره ويتملاه؛ ليكون ذلك السرور ثأرا عنده، ويكون تنغيص المسرور به من همه ودأبه. وهذا هو الحسد الذي ليس في طبيعة ابن الرومي ذرة منه، بل ليس ما عنده إلا نقيضه وضده.

فقد كانت ألذ متعه التي وصفها تلك المتع التي غنمها مع صحبه، وسعد بها كما سعد غيره، وربما كان لا يلح ذلك الإلحاح في طلب السمك الذي يحبه إلا ليسرع به إلى صديقه يدعوه إليه، ويشركه فيه:

Página desconocida