El Hijo del Hombre: Vida de un Profeta
ابن الإنسان: حياة نبي
Géneros
وبالأمس كان السلطان في تلك المنطقة لفيليبس، الذي هو أحسن أبناء هيرودس، واليوم آلت السلطة فيها إلى أمراء تابعين لرومة، فضمت إلى سورية، وتبعد هذه المنطقة من العاصمة الجديدة دمشق، وأبعد من ذلك رومة التي تصدر منها الأوامر، فلا يستطيع هيرودس أنتيباس أن يتدخل في شئون بلاد مجاورة مثلها عاطلة من سيد. ومن الملحوظ أن يجد مهاجر كيسوع أمنا في بلد يرتبك في دور انتقال كذلك البلد، ولا نعرف عدد الأسابيع التي قضاها يسوع مطمئنا هنالك؛ وإنما نعلم أنه وجد بعد زمن من تلك السنة في مدينة جدرة الصغيرة السورية الواقعة في جنوب البحيرة الشرقي، فيقطن بها أناس من الإغريق، ففيها يرى يسوع أنه في مأمن من أعدائه، فمن ذا الذي يظن وجود معلم يهودي في مثل تلك القلعة الوثنية؟
لم تلبث قدرة يسوع على الشفاء أن أخرجته من مهجره، وبيان الأمر أن قطيع خنازير كثيرة كانت ترعى الكلأ في الوادي الملاصق لتلك المدينة، فيركض من بينها مجنون إلى يسوع؛ لما سمعه عنه بعد أن كان يسكن القبور والمغاور، فكسر قيوده، فلم يسطع أحد أن يزجره لرميه الحجارة على كل من يدنو منه، فينادي يسوع قائلا كما قال المجنون الأول الذي شفاه في كفر ناحوم: «ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي، أستحلفك بالله ألا تعذبني!» فيسأله يسوع: «ما اسمك؟» فيجيبه بصوت راعد: «اسمي لجئون؛ لأننا كثيرون.» فيحدق إليه يسوع، فيهزه، فيقرأ عليه العزائم، فيهدأ جنونه فيشفى، ويراقب الرعاة ما حدث، فيسقط في تلك الأثناء بعض الخنازير الضالة من فوق الجرف إلى البحر.
ذعر أولئك الرعاة فاعتقدوا أن الشيطان ترك ذلك المجنون ودخل في الخنازير، ففروا إلى المدينة، فقصوا ما حدث على ساكنيها مع مبالغة، فيهرع هؤلاء فيجدون الممسوس مبرأ، ويجدون الخنازير غارقة، ويجدون الغرباء الذين هم سبب ذلك هنالك، فيستحوذ عليهم فزع، فيطلبون من هؤلاء السحرة أن ينصرفوا عن تخومهم.
غشاء كثيف يغشى أعمال المحسن فيطرد، ولماذا؟ أمن أجل بضعة خنازير لم تلبث القصة أن جعلت منها ألوفا كما اعتقد ذلك المجنون وجود جوقة من الشياطين فيه؟ يظهر أن يسوع خسر بعض فتنه؛ لما أصابه من الاضطهاد، فأضحى يجتنب ويطرد، بعد أن كانت تفتح له الأبواب؛ لما بدا عليه من علائم التشرد، وحب الاطلاع، وتنافر الصوت، فلم يبق لديه سوى العودة إلى الجليل؛ حيث ينتظره أعداؤه، وحيث تحيق به الأخطار.
مرثا ومريم.
إليك الفريسيين في الجليل يجدون في طلب يسوع، فأين يلاقونه إذن؟ يعلم جميع من في البلاد ، منذ زمن، ماذا حدث في الناصرة، وفي هذا سبب عدم ظهوره حتى في المعبد، حتى على رأس الجبل، حتى على شاطئ البحيرة، حتى في الميدان العام، فهل خاف فغاب عن الأنظار؟ فأما وقد عاد أخيرا إلى البلاد، فإنه لا يستطيع الاختفاء يوما واحدا ما ذاع خبر رجوعه، وأخذ يطوف في المدن والقرى الواقعة حول البحيرة منذ اليوم الثالث، والناس ليسوا من الحمقى كأهل الناصرة؛ فهم لا يريدون مهاجمته بغير حذر، وهم في ذلك كالعدو الذي يفاوض عدوه ليكتشف محل الضعف فيه قبل أن يهاجمه.
ويعرفهم يسوع بمشيهم في السوق، وتناسب خطاهم، واتزان حركاتهم، وحدة نظراتهم، وانقباض شفاههم، وفتور سلامهم المؤدب، ويبصر يسوع من خلال هلعه دنو العدو، فينضب حبه الفياض للناس في أعماق قلبه، ويسأله فريسيان واقفان على حافة الطريق باهتمام: «متى يأتي ملكوت الله؟» فينتحل طوريهما، فيجيب عن سؤالهما كمن يريد أن يعلم لا أن يلوم: «لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هو ذا ها هنا، أو هو ذا هنالك؛ لأن ها ملكوت الله داخلكم.» ثم ينصرف فيتعقبانه بعيونهما هازين أكتافهما غير شاعرين بالنفحة النبوية التي صدرت عنه، وإن شئت فقل بالمبدأ الجديد الذي هو من القوة؛ بحيث يكفي لرج العالم القديم. أجل، إن يسوع النجار قال لهما: «ها ملكوت الله داخلكم.» وسار في طريقه؛ غير أن ذينك الفريسيين كانا من الغرور ما لم يسمعا معه حفيف الأجنحة الخفية، فيشعرا بحضور الرب الذي يريان أنه «لا يدرك».
ويرى آخرون ذات يوم امتحان النبي الجديد فيسألونه أن يريهم آية من السماء، فتعتريه سورة غضب، فيضبط نفسه بدلا من إبدائها، فيجيب عابسا: «إذا كان المساء قلتم صحو؛ لأن السماء محمرة، وفي الصباح اليوم شتاء؛ لأن السماء محمرة بعبوسة. يا مراءون! تعرفون أن تميزوا وجه السماء، وأما علامات الأزمنة فلا تستطيعون! جيل شرير فاسق يلتمس آية، ولا تعطى له آية!»
والحق أن السماء مكفهرة، وفيها الآيات، وليس زمن نزول صاعقة منها ببعيد، وتصل أنباء يسوع الناصري إلى أولياء الأمور بأورشليم تباعا ، فيرسلون إلى الجليل كتبة؛ ليروا من يتبعه، وليروا هل يجدف على الله، وليبحثوا عن وسائل للقبض عليه، ولا يصعب العثور عليه ما التف الجمهور حوله من جديد، وجمع الشهود ضده هو ما يرغب فيه أعداؤه.
لم يسمع الكتبة إلحادا؛ وإنما علموا أن تلاميذ يسوع لا يغسلون أيديهم قبل الطعام، وغسل كهذا لم يكن واجبا إلا قبل الأكل من الموائد القربانية، ثم وسع تفسير الشريعة فقيل بضرورة غسل الأيدي قبل الطعام من الموائد العادية، فأضحى ذلك عادة في العاصمة، لا بين فلاحي المناطق القاصية المساكين الذين لم يسمعوا شيئا عن ذلك على ما يحتمل، وليس في ذلك كبير أمر؛ وإنما يعد بداءة يستدرج منها يسوع الثائر، ومن المحتمل أن يكون ذلك قد وقع مساء في مكان عام؛ حيث يجلس الناس على عتب بيوتهم، أو يتكئون على عمدها، أو يسيرون ذهابا وإيابا طلبا للطراوة، ويقترب أولئك الكتبة من يسوع ويسألونه جهرا: «لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ، فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزا؟»
Página desconocida