وقال في باب الأسرار: «لا يجوز لعارف أن يقول: أنا الله، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا العارف من هذا حاشاه.»
وقال في الباب التاسع والتسعين ومائة: «القديم لا يكون قط محلا للحوادث، ولا يكون حالا في المحدث؛ وإنما الوجود الحادث والقديم مربوط بعضه ببعض، ربط إضافة وحكم، لا ربط وجود عين بعين؛ فإن الرب لا يجتمع مع عبده في مرتبة واحدة أبدا.»
وقال في لواقح الأنوار: «من كمال العرفان شهود عبد ورب، وكل عارف نفى شهود العبد في وقت ما، فليس بعارف؛ وإنما هو في ذلك لوقت صاحب حال، وصاحب الحال سكران لا تحقيق عنده.»
ويقول في الباب السابع والستين وثلاثمائة من الفتوحات: «اجتمعت روحي بهارون - عليه السلام - في بعض المشاهدات، فقلت له: يا نبي الله، كيف قلت:
فلا تشمت بي الأعداء ، ومن الأعداء حتى تشهدهم، والواحد منا يصل إلى مقام لا يشهد فيه إلا الله؟ فقال لي هارون - عليه السلام: صحيح ما قلت في مشهدكم؛ ولكن إذا لم يشهد أحدكم إلا الله؛ فهل زال العالم في نفس الأمر، كما هو في مشهدكم، أم العالم باق لم يزل، وحجبتم أنتم عن شهوده؛ لعظيم ما تجلى لقلوبكم؟ فقلت له: العالم باق في نفس الأمر لم يزل؛ وإنما حجبنا نحن عن شهوده، فقال: قد نقص علمكم بالله في ذلك المشهد، بقدر ما نقص من شهود العالم، فإنه كله آيات الله. فأفادني - عليه السلام - علما لم يكن عندي.»
هذا موقف من المواقف التي يجب أن نقف لديها ونرصد الفكر عليها؛ لأنه موقف يشرع لنا أدق مسألة في التصوف، هي مسألة المشاهدة والتجلي، والفناء والذهاب بالحق عن الخلق، أو كما يقول الجنيد: من شهد الحق لم ير الخلق.
فالمتصوف المحب الغارق في حبه، عند المشاهدة - وما أدراك ما المشاهدة؟! - يذهب عنه شهود الخلق والعالم؛ لعظيم ما تجلى لقلبه من أنوار ربه، وهو موقف عظيم رهيب.
ولكن ليس معنى هذا، أن العالم قد زال أو تلاشى، أو عدمت عينه وذاته؛ وإنما هو ذهول بما هو أعلى عما هو أدنى، كمن يشاهد الملك مثلا؛ فيذهل عند رؤيته عن رؤية ما سواه، فلا يرى غيره؛ لأن جلاله قد حجب من حوله، ولا قياس ولا تشبيه بين المثلين.
وليس في هذا ما يعاب، فهو موقف عظيم من مواقف الرجال؛ ولكن الكمال يكون أتم وأعلى إذا اقترنت مشاهد الأنوار الربانية مع الموجودات الكونية؛ لأن كل موجود آية من آيات الله، فالحجاب عنها حتى عند المشاهدة العظمى: نقص في المعرفة.
ويشرح لنا محيي الدين الحديث القدسي المشهور: «ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ... إلخ.»
Página desconocida