وهم أهل طبقات ومقامات، وكل طبقة عاشقة لمقامها، تذب عنه، ومن هؤلاء من هم في مقامات لا يعرفها إلا من ذاقها؛ لأنه يعرف عن مشاهدة.
ومنهم أهل الفتوة: وهم رجال القوة الإلهية، آيتهم من كتاب الله:
أشداء على الكفار ، لا تأخذهم في الحق لومة لائم.
ومنهم أهل الصفاء: وهم رجال الحنان والعطف الإلهي؛ آيتهم من كتاب الله: آية الريح السليمانية، تجري بأمره رخاء حيث أصاب، لهم شفقة على عباد الله مؤمنهم وكافرهم، ينظرون إلى الخلق بعين الجود.
وهكذا يعدد ابن عربي لنا المقامات والطبقات وهي مئات ومئات، إلى أن يصل إلى طبقة الصوفية، وهؤلاء لا عدد يحصرهم بل يكثرون ويقلون، وهم أهل مكارم الأخلاق، وكل من زاد في خلقه عليك، فقد زاد في التصوف عليك.
فإذا انتهى محيي الدين من هذا التقسيم، أخذ يحدثنا عن ذروة أهل المملكة أو عالم الأنفاس وهم الملامتية، وعن خاصة من هؤلاء الرجال، وهم أهل الليل.
الملامتية
وفي تلك المملكة عباد لله - سبحانه، أدبهم وعلمهم واجتباهم، وصان نفوسهم، وطهر قلوبهم واصطفاهم لعبادته، هم ذروة تلك المملكة، وقد أسماهم محيي الدين «بالملامتية»، وهم الذين حلوا من الولاية في أقصى درجاتها، ونهلوا من العلوم أصفى معانيها، وما فوقهم في تلك المعارج اللدنية إلا درجات النبوة، ومقامهم يسمى مقام القربة، وهو مقام الانشغال بالخالق عن الخلق. وعلامتهم الاختفاء والانطواء؛ فلا يعرفون بخرق عادة، ولا يعظمون بين الناس، ولا يشار إليهم بالصلاح الذي تعرفه العامة؛ فهم الأصفياء الأمناء الأبرار أحباب لله، يعرفهم الملأ الأعلى ويذكرون في السماء، وهم في الناس الغامضون.
وهم الذين قال فيهم رسول الله - صلوات الله عليه - عن ربه - عز وجل: «إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر والعلانية، وكان غامضا في الناس.»
ومسألة الظهور في الحياة، وخوض عبابها، والسيادة في الدنيا، وما إلى السيادة من أغراض وأهداف ، لمحيي الدين في كل هذه الأشياء رأي أوضحه ونادى به؛ فهو يرى أن الجهر بالدعوة والسيادة في الدنيا كمال للأنبياء، ونقص في الأولياء.
Página desconocida