والكون كله بما حوى عابد مسبح، كل من فيه قد ألهم صلاته وتسبيحه، كون منغم منعم، بموسيقى ربانية أو كما يقول محيي الدين: «بالإيقاع الإلهي والقول الرباني، الكون كله سماع لمن ألقى السمع، ورفع عنه الغطاء،
تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .»
وإذا كانت أمواج الموسيقى السابحات في الجو من محطاتنا الأرضية، تمر بالأذن ولا تسمعها إلا بالجهاز المعد لها؛ فكذلك تلك الموسيقى في حاجة إلى محطات وأجهزة في قلوبنا، أجهزة لا تتفتح إلا بالذكر والتقوى، وكم للذكر والتقوى من أسرار وأسرار!
كل شيء يقع تحت أبصارنا، له حياته وله عباداته وله عجائبه وفنونه، تحركه يد الخالق المدبرة الحاكمة، التي أحسنت وأبدعت خلق كل شيء، وأودعته ما شاءت وأرادت، وكشفت مما أودعت لمن شاءت ولمن أحبت.
ليست الحياة في هذا الكون للملك والإنسان والجن والحيوان والنبات فحسب، بل الحياة لكل شيء، حتى تلك الجبال التي تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب، حتى تلك الأحجار منها ما يتفجر منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، ومنها ما يسبح بحمده ويذكر بآياته. يقول ابن عربي: «إن آلة النجار ربما تعلم أكثر مما يعلم الصانع بها؛ فإنها حية عالمة بخالقها، مسبحة بحمد ربها، عالمة بما خلقت له، فكل شيء في الطبيعة قد أوحي إليه بما يراد منه .»
وهذه الحروف التي نكتبها لها أسرارها ودنياها، فهي أمة قائمة بذاتها، لها صلاتها بالسماء والنجوم، ولها مساس بالإنسان، وعلاقة برسالات الرسل والأنبياء.
ثم الكلمات أيضا، أليس عيسى كلمة الله؟ وأليست الكلمة الطيبة كالشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ فلا عجب إذا كانت أمة مسخرة، طائعة وعابدة.
إنه لعالم جميل أبدعته القوة الإلهية - تعالت وجلت قدرة الله - عالم جميل عجيب ذلك الذي نعيش فيه، لو نظرنا إليه بالقلب والروح، ولو مزقنا عن أرواحنا أقنعة الشهوات وحجب الظلمات.
إن مكاشفات القلب، لتدلف بنا إلى عوالم مسحورة جميلة محببة، مؤمنة عاقلة تهتف بالإيمان وتنادي بقدرة الرحمن، وإلى علوم وفنون من فيض القدرة الإلهية يهبها الله لمن يشاء ويعلمها من لدنه لمن اجتبى واصطفى، إنها مملكة التصوف، وإنها لدنيا الصوفية.
يقول محيي الدين: «فاعلم أن في الخبز والماء، وجميع المطاعم والمشارب، والملابس والمراكب والمجالس، والزهر والثمر، أرواحا لطيفة غريبة، فيها استجابة مودعة لما يراد منها، هي سر حياتها، وفيها تجل من حب الله لعبده وعلو منزلته، حتى سخر له ما فيه السعادة والعلم والبقاء.
Página desconocida