وهو حال دقت أسراره حتى التبست ظواهره على الفقهاء، فرموا فيه المتصوفة بالعظائم، والتبست خواطره وفتوحاته على المتكلمين والمتفلسفين؛ فرموا رجال الله فيه بالحلول ووحدة الوجود؛ حيث تنادى المتصوفة بأنهم لا يرون في الوجود إلا الله، وتجلياته في مخلوقاته، وهو بحث ليس موضعه هنا، فله مكان آخر في هذا الكتاب.
وكان هذا المقام لمحيي الدين، وهو في فاس في المرة الأولى، يحدثنا قائلا: «أخبرني الأستاذ النحوي عبد العزيز بن زيدان بمدينة فاس، وكان ينكر حال الفناء، وكان يختلف إلينا، وكانت فيه إنابة، فلما كان ذات يوم، دخل علي وهو فرح مسرور قائلا: الفناء الذي تذكره ويذكره المتصوفة، صحيح عندي ذوقا، فقد شاهدته اليوم. قلت: كيف؟ قال: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد دخل اليوم من الأندلس إلى هذه المدينة؟ قلت: بلى. قال: اعلم أني خرجت أتفرج عليه مع أهل المدينة، فأقبلت العساكر شيئا فشيئا في منظر جميل أخاذ، فلما وصل أمير المؤمنين في تلك الأبهة والعظمة، ونظرت إليه بين رهبته وجلاله، ذهلت حتى فنيت عن نفسي وعن العساكر وعن سائر المشهد، حتى لم أر البنود ولم أسمع الكاسات.
ودام هذا الحال معي حتى انتهى موكب أمير المؤمنين؛ فأحسست بنفسي، وشعرت بما فنيت عنه من ضغط الناس وألم الزحام وغبار الجماهير.
فتحققت أن الفناء حق، فإذا كان هذا يحدث من مشهد عبد، فكيف بمشهد الرب، ذلك هو الحق لمن ألقى السمع.»
وأقل مراتب الفناء - كما يقول محيي الدين - تمثله لنا حالة الإنسان إذا استغرق في مسألة من مسائل العلم، أو أمر ما من أمور الدنيا، فتحدثه ولا يسمعك، وتكون بين يديه ولا يراك، وسبب ذلك: أن القلب البشري الذي يسع كل شيء، لا يتسع لخاطرين في وقت واحد.
القلب لا يتسع لخاطرين في وقت واحد، ولا لمشهدين: فإما مشهد الحق، وإما مشهد الخلق، أو كما يقول الجنيد: من شهد الحق غاب عنه الخلق.
وتلك آية ما بين أصحاب هذا المقام من المتصوفة، وبين المنكرين عليهم الصائحين بهم لكل مشهد وخاطر.
مقام العبودية أو الصديقية
العبودية الصادقة أن ترى الله فاعلا لكل شيء، وأن تتصف بصفات العبودية الكاملة، وأن لا تغفل عن مشاهدة عبوديتك، وأن تكون أعمالك ما ظهر منها وما بطن، وخواطرك ما عرف وما مات في أغوار النفس مقيدة بهذا القيد، محددة بتلك الحدود.
وصاحب هذا المقام يكسوه الحق حلل الجمال والكمال والهيبة؛ فينسب إليه من يشاهده تلك الصفات لظهور آثارها عليه، ولكن صاحب هذا المقام لا تنخدع نفسه؛ لأنه يعلم أن ذلك لله ومن الله إنه لعبد، تلك حقيقة نفسه وحقيقة حسه، مهما عرف الناس أو لمسوا من حقائقه ومظاهره.
Página desconocida