ولا سبى خلدي غنج ولا حور
رضاك راحة نفسي - لا فجعت به
فهو العتاد الذي للدهر أدخر
لا زلت ذا عزة قعساء شامخة
لا يبلغ الوهم أدناها ولا البصر
قال ابن عمار هذه الأبيات وهو يترنم بها ترنم المعجب المخمور بما ينشد والمعتمد يستمع وعلى وجهه تتوالى موجات من السخط والرضى، فليس يدري أيها أولى بالظهور وأيها أدعى إلى الاستخفاء، حتى إذا انتهى ابن عمار من الأبيات التي يحفظها تغلب السخط على الرضى في نفس المعتمد وإن السخط لغالب دائما في نفس الملوك، انتفض المعتمد صارخا: أتذكرني بموقعة هزمت فيها وباعتذار عن خذلان! لبئس ما اخترت لي يا ابن عمار ولبئس ما شاء لك حظك. - بل نعم ما اخترت لك ونعم ما اختار لي حظي أيها الشاعر، أنا لا أعرفك في موقعة وأنا لا أعرفك أميرا وإنما أنا أعرف فيك الشاعر الرقيق وأعرف فيك المعتمد بمجده الذي أنشأه هو بقلمه لا بمجده الذي أنشأه له أبوه وأجداده.
وفكر المعتمد قليلا ثم هز رأسه وقد أعجبه الكلام فكل جديد جميل وقال لابن عمار: لقد أجبت أيها الشاعر فأحسنت. - بل ليس بعد يا مولاي فإن لي مأخذا على شعرك هذا الذي ذكرت.
وبهت المعتمد فهو لم يسمع كلمة المأخذ هذه لاحقة بكلام يقوله أبدا ولكن ابن عمار لم يحفل دهشة المعتمد وأكمل ما يقول. - لقد قلت في بيتك الثاني: وازجر جفونك لا ترضى البكاء لها. إنك لتخاطب أباك في قصيدتك تعتذر له عن هزيمتك، وأنا لا أظن أن أباك بكى، بل لو كان بكى لكان عليك أنت أن تكتم الأمر فلا تبين عنه، أما أن تقوله شعرا فهذا ما لا أرضاه لك شاعرا أبدا.
سمع المعتمد الحديث ووعاه وأصابته وخزة النقد ولكنه وجد لها مسا رقيقا حلوا لم يعهده من قبل في المديح الذي يسمع، لقد أحس صدقا في حديث ابن عمار وهو لم يعهد الصدق في كل من يخاطبونه، بل كان يشعر بفراغ ضخم من الناس؛ فقد كانوا جميعا يتملقونه فهم في عينه لا يملئون الفراغ الذي أتاحه الله لهم في الدنيا، بل إنهم يزيدون هذا الفراغ فراغا. سمع المعتمد وفرح بما يسمع ثم هب في الجالسين: أسمعتم أيها الشعراء؟ إن في العالم صدقا، لقد مكثتم السنين تستمعون وتعجبون! ألم أقل شيئا ينتقد في يوم من الأيام؟ ومن أنا أيها الشعراء؟ أكنت الله يرسله تنزيلا؟ ولكن صدقا انبثق في القصر، فأهلا، أهلا بالصديق الذي طال عنه البحث.
مال المعتمد إلى ابن عمار يذاكره شعره وابن عمار يمدح في تحفظ وينقد في أدب ووضوح ، وحين يجد المعتمد معجبا بنفسه يشجعه على إعجابه، فهو يلاينه ويشعره أنه يقسو عليه، وهو يمدحه ويجعله يحس أنه ينقده، حتى انتهى الليل ودارت الرءوس تهفو إلى النوم فانفض السامر وافترق الشاعران الصديقان وقد اعتزما لقاء في يومهما التالي، بل لقد اعتزما لقاء في كل أيامهما التالية، فهلمي أيتها الأيام وأرينا ما الذي تخفينه لصداقة جديدة وعهد جديد.
Página desconocida